التوبة النصوح:
قال الله تعالى: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار {.
والنّصحُ في التوبة: هو تخليصها من كلّ غشّ ونقص وفساد، قال الحسن البصري: (هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مُجْمِعاً على أن لا يعود فيه).
وقال الكلبي: (أن يستغفر باللِّسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن). وقال سعيد بن المسيب: (توبة نصوحاً تنصحون بها أنفسكم). قال ابنُ القيّم: (النصح في التوبة يتضمّن ثلاثة أشياء:
الأوّل: تعميم الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.
الثاني: إجماع العزم والصِّدق بكلتيه عليها بحيث لا يبقى عنده تردُّد لا تلوُّم ولا انتظار، بل يجمع عليها كلَّ إرادته وعزيمته مبادراً بها.
الثالث: تخليصها من الشّوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمَحْضِ الخوف من الله وخشيته والرّغبة فيما لديه والرّهبة مما عنده، لا كَمَنْ يتوب لحفظ حاجته وحرمته ومنصبه ورياسته، أو لحفظ وقته وماله، أو استدعاء حَمْد النّاس، أو الهرب من ذمِّهم، أو لئلاّ يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صِحَّتها وخلوصها لله عزّ وجلّ.
فالأوّل: يتعلّق بما يتوب منه، والأوسط: يتعلّق بذات التائب، والثالث: يتعلّق بمن يتوب إليه، فنُصْح التّوبة: الصِّدْقُ فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب وهى أكمل ما يكون من التوبة.)
وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلَها وتوبة منه بعدَها، فتوبتُه بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه:
أوّلاً: إذناً وتوفيقاً وإلهاماً، فتاب العبد، فتاب الله عليه ثانيا.
ثانياً قبولاً وإثابة لقوله عزّ وجلّ : } وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {.
فأخبر سبحانه: أنّ توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنّها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببا مقتضيا لتوبتهم وهذا القدر من سرِّ اسْمَيْه (الأول والآخرُ)، فهو المعدّ والممدّ ومنه السبب والمسبب، والعبد تواب، والله تواب، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الأباق، وتوبة الله نوعان : إذن وتوفيق، وقبول وإمداد.
والتوبة لها مبدأ ومنتهى، فمبدؤها: الرّجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي أمرهم بسلوكه بقوله تعالى: } وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ{ ونهايتها: الرّجوع إليه فى المعاد وسلوك صراطه الذي نصبه موصلاً إلى جنّته، فمن رجع إلى الله في هذه الدّار بالتوبة رجع إليه في المعاد بالثواب، قال الله عزّ وجلّ: } وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {.
من كتاب:
تزكية النفوس وتربيتها كما يقرره علماء السلف (ابن رجب الحنبلي – ابن القيم – أبي حامد الغزالي)، جمع وترتيب: الدكتور أحمد فريد، تحقيق ماجد بن أبي الليل، دار القلم بيروت لبنان.
(ص: 140 – 142).