شهادات وأرقام حول الواقع التعليمي، في 9 بلدان، لا تطمئن كثيراً.
الصورة قاتمة، حتى في الدول الصناعية،. ففي فرنسا، «لم يعد أولادنا
يعرفون... التفكير»، على ما ورد في كتاب أثار جدلاً في الأوساط التربوية
ولا يزال، لأنه يرثي النظام التعليمي، وهناك أيضاً يعاني الطلاب مشكلات
على المستوى النفسي، نتيجة سوء أوضاعهم. وفي دراسة نفّذتها مصلحة «تعاضد
الطلاب» وشملت 9228 شاباً وشابة بين 18 و28 سنة من العمر، تبيّن أن 15 في
المئة سبق أن فكّروا في الانتحار، طوال عام خلا، («لوموند» الفرنسية، 8
الجاري). وردّت الدراسة الأسباب إلى ضغوط الدرس وقلّة الاهتمام بأوضاعهم
في المدارس، ولكنّها لم تتطرّق إلى الأسباب الذاتية أو أنها لم تدلِ بها.
لكن، يبدو أن تسرّب التلامذة من المدرسة (في سنّ مبكّرة) والتوجّه إلى
العمل هو الآفّة التي يعانيها الواقع التعليمي في بلدان كثيرة: ففي
الولايات المتحدة 30 في المئة متسربون والسبب الرئيس هو «الملل» (!).
وأسباب التسرّب لا تحصى، لكنّ الواضح أن كثيراً من التلاميذ المتسرّبين
يعرفون ماذا يفعلون: ينقذون أنفسهم من انسداد الأفق. وفي كندا، قال أحد
الباحثين أن المراهق الذي يتسرّب ليعمل، لا يكون، بالضرورة، يتهرّب من
الدرس، إنما من الواقع. فهو يعيش، ربما، مع والدين عاطلين من العمل وهم من
حملة الشهادات. ويمكن أن يقررّ العودة إلى الدراسة بعد وقت.
لكن هذه المرونة، لا نشهدها في الدول العربية، خصوصاً تلك التي تعصف بها
أزمات وتقضّها حالات متقطّعة من اللا-استقرار. فالتسرّب فيها، في معظم
الأحول، إلى غير رجعة.
أبو علي رجل في مقتبل العمل، يعمل ميكانيكي سيارات في أحد شوارع بيروت.
رأى جاره مشغول البال فقال له ليهدّئه: «يا استاذ هذا البلد ليس بلد علم».
وأثبت قوله هذا بنجاح ولديه في العمل والحياة بعد تسرّبهما من المرحلة
المتوسطة، «الأول يعمل ميكانيكياً والثاني سائق سيارة أجرة. ولدى كل منهما
منزل وعائلة وأولاد». وقصد الرجل أن هذا البلد (أي لبنان) هو بلد
«الواسطة» التي يحتاج إليها حامل الشهادة قبل غيره. الحال التعليمية في
لبنان ومصر حسنة، على ما يبدو، تثبتها بعض الأرقام التي تلحظ مشكلات
أيضاً. ولكن كيف نردّ على أرقام «الواقع» (أو أرقام أبو علي) التي تشير
إلى نجاح أيضاً.
واللاجئون الفلسطينيون في المخيّمات في لبنان، ينتظرون «أمراً» ينقذهم من
إحدى مآسيهم، فشهادات الخرّيجين معلّقة على الحائط. والتلامذة، كما تلامذة
العراق، لا يأسفون على ترك المدرسة.
*****************************
أخيراً، الوضع في الجزائر
ظلت المدرسة الجزائـريـة، منذ الاستقلال عام 1962، «مختبراً» لمشاريع
إصلاح عـديـدة. وحين تـولّى السلطة الرئيـس بوتـفـليـقـة في 1999، أعلن عن
ورشات إصلاح عـديـدة ومتـنوّعـة، كان أبـرزها ورشـة إصلاح المنظومة
التربوية. ووجهت انتقادات حادة إلى اللجنة المكلّفة إدارة الإصلاح
التربوي، عقب إلغاء تخصص الشريعة الإسلامية في المرحلة الثانوية، وتقديم
تدريس اللغة الفرنسية إلى السنـة الثالثة، ما وصف بأنه استجابة للضغوط
الأميركية وخضوع للتيار الموالي لفرنسا. وتفضل شريحة من الجزائريين تجاهل
هذا «الجدل» بعد أن حـسمت أمـرها لمصلحـة تـدريـس أبنائها في مدارس خاصة
جزائرية أو أجنبية، أو إرسالهم إلى الخارج.
ثم اعتمدت الحكومة 108 مدارس خاصة، اشترطت عليها التدريس باللغة العربية
ووفقاً لمناهج التربية الجزائرية. وخضع كثير منها للقرار عن قناعة، أو تحت
الضغط، إذ لجأت الحكومة إلى غلق بعض ممن تردد في الاستجابة للشروط.
ويقول إبراهيم (40 عاماً و أب لطفلين): «الإصلاح يقتضي أن نأتي بأحسن
المناهج ونطبقها، ولا أفهم لماذا تلجأ الحكومة إلى تقديم تدريس الفرنسية،
بدل التركيز على تدريس اللغة العربية التي يعاني التلاميذ ضعفاً كبيراً في
إتقانها... وإذا كنا نتذرع بضرورة تلقين الأولاد اللغات الأجنبية ومواكبة
العصر، فالأوفى أن نعلمهم الانكليزية لأنها لغة العلوم والتكنولوجيا».
في المقابل ترى فاطمة (35 عاماً) أستاذة في مدرسة ابتدائية أن الإصلاحات
الجديدة إيجابية من ناحية تعديل البرامج التربوية القديمة، ولكّنها لا
تفهم الفائدة من تدريس تلاميذ السنة الثانية ابتدائي مقررات التكنولوجيا،
مثلا، فهناك «اكتظاظ في المقررات المدرسية تجعل الأطفال ينفرون من الدراسة
بسبب التعب، وثقل محفظاتهم بالكتب والمراجع».
وتخصص الجزائر 3.4 بليون يورو سنوياً لقطاعات التربية والتعليم والتكوين
المهني. وتحلّ وزارة التربية الوطنية في المرتبة الثانية من ناحية حجم
الموازنة المخصصة لها، بعد وزارة الدفاع.
وعلى رغم جهود الإصلاح والتحسين، تفضّل كثرة من الجزائريين، من ذوي الدخل
المرتفع، تدريس لأبناء في مدارس خاصة، ولا سيما الأجنبية منها، أو إرسالهم
إلى الخارج لتلقي تكوين علمي مضمون. وعزاؤهم في ذلك، أن المسؤولين
الجزائريين الذين يتغنون بالإصلاحات يرسلون أبناءهم للدراسة في دول أخرى،
ليعودوا لقيادة البلاد بعد ذلك!
وتقول منال (17 عاماً): «اخترت متابعة دراستي في الثانوية الدولية
الفرنسية بعد أن اطلعت على المقررات الدراسية التي تقدمها من إحدى
صديقاتي، وأريد أن أضمن الالتحاق بإحدى الجامعات الفرنسية بعد نيل شهادة
البكالوريا».
ولم تكن التحولات الاقتصادية التي تعرفها الجزائر ودخولها عهد اقتصاد
السوق لتمر من دون التأثير على المدرسة الجزائرية، فالدولة باتت تدعم
معاهد التكوين وفتح مراكز جديدة لجلب التلاميذ إلى تخصصات تضمن لهم
التأهيل في حرف تتيح لهم العمل مستقبلاً، وذلك لامتصاص الاكتظاظ الذي
تعرفه المدارس، ووضع حد لظاهرة الطلبة المتخرجين بشهادت جامعية بعد سنوات
طويلة من التعليم، دونما وظيفة.
وتشجّع الدولة التلاميذ وأولياءهم على اختيار تخصصات البناء والعمران
والهندسة والإعلام الآلي والاقتصاد، تماشياً مع دخول الجزائر عهد اقتصاد
السوق وحاجتها إلى مهندسين ومعماريين لمواجهة مشكلة السكن. وفي المقابل،
لا يزال الكثير من الأولياء يفضلون تكوين أبنائهم في تخصص الطب والحقوق،
بينما يميل آخرون إلى عالم الأعمال. وبعيداً من تلك الإصلاحات، لا تزال
المدرسة الجزائرية تواجه شبح تسرب الملايين من التلاميذ بسبب تدنّي دخل
الأسر، على رغم تخصيص الحكومة سنوياً منحة 2000 دينار لعائلات التلاميذ
المعوزين، وتوفير الكتاب المدرسي مجاناً، فضلاً عن تمسك الجزائر بسياسية
التعليم المجاني للجميع إلى غاية سن 16 عاماً.
31 في المئة ... «تسرّب»
في دراسة أجريت حول الظاهرة، شملت 2979 طفلاً من بينهم 702 إناث، عبر
ثماني ولايات، وأجراها طلبة بكليات الطب، ظهر أن 56 في المئة من
المستجوبين انتهى مشوارهم الدراسي في المرحلة التكميلية، و31 في المئة لا
يتعدى مستواهم الدراسي الابتدائي، و31 في المئة من الأطفال قالوا إنهم
غادروا مقاعد الدراسة، إرادياً.
وتقدم الدراسة قائمة طويلة للمهن التي يحترفها هؤلاء، فيأتي في رأسها بيع
السجائر على قارعة الطريق، يليها بيع الخبز، إلى 69 مهنة أخرى على
اللائحة. ويعمل 28 في المئة من هؤلاء الأطفال بعيداً من عائلاتهم.
وفي الجزائر 26.5 في المئة (أي اكثر من 8 ملايين شخص) من الأميين، وكانوا
يشكلون 85 في المئة، في 1962، عام استقلال البلاد. وفيها حالياً 23 ألف
مدرسة، ما سمح بمضاعفة عدد التلاميذ ليصل إلى 8 ملايين حالياً، مقابل 800
ألف (في 1962).
**********************************
البيداغوجيا الفرنسية الجديدة أعطت «براهينها» ... النظام التربوي الأكثر كمالاً في العالم... «معطل»
باريس - ندى الأزهري
«لم يعد أولادنا يعرفون القراءة ولا الحساب ولا التفكير... وخلال عشرين
سنة، قُضي على ما بنته الجمهورية في قرن من الزمن». حقيقة فاجعة يشير
إليها الكاتب جان - بول بريغلي في كتابه «تصنيع البله. الموت المبرمج
للمدرسة»، الذي صدر العام الماضي في فرنسا، لكنه لا يزال، إلى اليوم، يثير
النقاشات الحادة بين مؤيد ومعارض، ولا سيما الآن مع العودة إلى المدارس،
وبعد صدور كتاب آخر للمؤلف نفسه حول التعليم في فرنسا، أيضاً. يرثي هذا
المربي حال النظام التعليمي الفرنسي الذي كان من «الأفضل في العالم كله
والأكثر كمالاً»، والمدرسة الفرنسية التي كانت «الأولى في أوروبا». فهذا
النظام أصبح اليوم «معطلا»، ولم يعد كالسابق المحرك الأساسي للصعود
الاجتماعي، فـ «هؤلاء الذين ولدوا في الشارع سيبقوْن من الآن فيه». وتحول
هذا النظام أيضاً إلى «مصنع لإنتاج البله... والأفراد المنضبطين،
والقابلين للتشكيل».
«ماتت المدرسة»، يعلن الكاتب الذي قدم مسحاً شاملاً للوضع التعليمي في
فرنسا، مبينا حقائق لا يستطيع إنكارها حتى المعارضون له، ونظرة سوداوية
وصفت الآباء بأنهم مذعورون من ملاحظتهم لكل ما لا يتعلمه أولادهم، وبأن
الأساتذة مثقلون بالإرشادات الحمقاء، وبأن البرامج غبية.
آراء لقيت تأييداً من الآباء والطلاب وأيضاً من بعض زملاء المهنة. وأبرز
الكاتب ما يعانيه هؤلاء من قلق حقيقي إزاء ما يحصل من تدهور المعارف،
وهبوط مستوى المناهج، وازدياد الأعداد في الصفوف (بمعدّل 27 تلميذاً في
الصف)، مقابل خفض في عدد الساعات لكل المواد.
ويؤرق إحدى الطالبات (18 سنة)، ومنذ زمن طويل «عدم جدوى النظام التعليمي».
وتعترف بأنها تعلمت القراءة بالاعتماد على نفسها لا في المدرسة، بينما
يشغل بال الأهالي ضعف أبنائهم في القراءة والكتابة وينظرون إلى غلبة
النشاطات المدرسية بعين غير راضية. وتقول إحدى الأمهات: «يقضون الوقت في
النطنطة من نشاط إلى آخر. ثم نندهش من أنهم لا يكتبون سطراً من دون أربعة
أو خمسة أخطاء!»
ويؤكد أحد الأساتذة أن دور الأستاذ لم يعد نقل المعرفة وأن دور التلميذ لم
يعد تعلم هذه المعرفة. فالمدرسة، برأيه، «لم تعد مكاناً للمعرفة، أو
للثقافة، إلا للأغنياء ربما (!)، فلا مكان للآخرين ولا لأولاد العمال
الذين يعيشون في الضواحي القاسية». ويشير هذا التحليل إلى مشكلة خطيرة
تعانيها المدارس وهي تفاوت المستوى التعليمي، بحسب المناطق. فكل طالب يسجل
في المدرسة الواقعة في منطقة سكنه. وهكذا يرتاد أولاد الأغنياء مدارس
الأحياء الراقية وأولاد الفقراء مدارس أحيائهم الفقيرة. وتجد المدرسة
نفسها بذلك، وبلا قصد، داعمة قوية للتمايز الطبقي.
هذا ما يشير إليه أيضاً بروفسور، كتب في تعليق على الكتاب عن «تعزيز جهل
أولاد الطبقة العمالية، وعن الثانويات الكبرى التي (لا تزال) تكمل عملها
بنقل المعارف وتحافظ بذلك على خزان النخبة بالقرب من أحواض الفقراء». وهذه
المشكلات التي تعانيها مدارس الأحياء الفقيرة والضواحي تدفع ببعض الأسر
فيها إلى التحايل على النظام للتمكن من تسجيل أولادهم في المدارس الحكومية
الجيّدة أو في المدارس الكاثوليكية الخاصة التي تستقطب 17 في المئة من
الطلاب.
وعلى رغم اعتراف آخرين بنقاط ضعف النظام المدرسي، يتهمون المؤلف بالحنين
إلى الماضي، «الزمن الجميل عندما كانت القواعد مملة والمدرسة أكثر مللاً
وكآبة، فلا ينتظر التلاميذ إلا الفرصة والعطلة». ويبرر المسؤولون هذا
الوضع بوصول 80 في المئة من الطلاب إلى الشهادة الثانوية الآن، مقابل 15
في المئة من قبل أربعين سنة، والباقي ينصرف إلى المصانع. ويشكو أحد
المدرّسين بالقول: «ما العمل مع تلاميذ يأتونك ورأسهم محشو بساعات من
المشاهدة التلفزيونية؟! ولا يأبهون للدروس ولا لسماع الإرشادات؟». ويعبر
آخر: «أشعر بأني وحدي في مواجهة المؤسسة والأهل والمجتمع. إنه تيار
وعقليات سائدة تشجع الكسل والاستهلاك ولا تعطي القيمة الواجبة للجهد
والعمل. ليست المدرسة للنزهة إنها مكان لتلقي العلم. ولكن من سيسمع؟!»
على من يجب إلقاء اللوم في التدهور الحاصل؟ على السياسيين، الأساتذة،
الأهل، النقابات، البرامج أم على كل هؤلاء معاً؟ شيء مؤكد تشير إليه أصابع
الاتهام في الكتاب هو البيداغوجيا (الطرق التربوية) الجديدة التي تطبق في
التعليم منذ ثلاثين سنة».
ويعزو المؤلف أسباب قيام هذه المدرسة «الظلامية» إلى الليبرالية الجديدة
التي تحتاج إلى مدرسة قادرة على «تشكيل أفراد قابلين للتكيف، من دون ماض
ولا تاريخ ولا أسس، أي مغفلين خاضعين لرحمة السخرة». ويرى أن المجتمع قد
فهم أن الضرورات الأولى «تصنيع أشخاص غير مثقفين يحتاجهم السوق»، ولهذا
عُمد إلى خفض المستوى وإفقار المناهج التي تترك التلميذ في جهله. فثمة
«تخريب مبرمج للتعليم» بهدف الحصول على يد عاملة رخيصة، متخلية عن الثقافة
الضرورية لانتقاد النظام أو مقاومته. وهو يقول: «الليبرالية الجديدة أعادت
البؤس فكان من المنطقي بموازاة ذلك أن تعيد الجهل».
لقد قامت الدنيا ولم تقعد منذ صدور هذا الكتاب وبدأت الاقتراحات لوضع
الحلول. ولكن أليست المدرسة انعكاساً للمجتمع؟ وبالتالي، هل يمكن لها أن
تبقى في منأى عن تحولاته؟
الصورة قاتمة، حتى في الدول الصناعية،. ففي فرنسا، «لم يعد أولادنا
يعرفون... التفكير»، على ما ورد في كتاب أثار جدلاً في الأوساط التربوية
ولا يزال، لأنه يرثي النظام التعليمي، وهناك أيضاً يعاني الطلاب مشكلات
على المستوى النفسي، نتيجة سوء أوضاعهم. وفي دراسة نفّذتها مصلحة «تعاضد
الطلاب» وشملت 9228 شاباً وشابة بين 18 و28 سنة من العمر، تبيّن أن 15 في
المئة سبق أن فكّروا في الانتحار، طوال عام خلا، («لوموند» الفرنسية، 8
الجاري). وردّت الدراسة الأسباب إلى ضغوط الدرس وقلّة الاهتمام بأوضاعهم
في المدارس، ولكنّها لم تتطرّق إلى الأسباب الذاتية أو أنها لم تدلِ بها.
لكن، يبدو أن تسرّب التلامذة من المدرسة (في سنّ مبكّرة) والتوجّه إلى
العمل هو الآفّة التي يعانيها الواقع التعليمي في بلدان كثيرة: ففي
الولايات المتحدة 30 في المئة متسربون والسبب الرئيس هو «الملل» (!).
وأسباب التسرّب لا تحصى، لكنّ الواضح أن كثيراً من التلاميذ المتسرّبين
يعرفون ماذا يفعلون: ينقذون أنفسهم من انسداد الأفق. وفي كندا، قال أحد
الباحثين أن المراهق الذي يتسرّب ليعمل، لا يكون، بالضرورة، يتهرّب من
الدرس، إنما من الواقع. فهو يعيش، ربما، مع والدين عاطلين من العمل وهم من
حملة الشهادات. ويمكن أن يقررّ العودة إلى الدراسة بعد وقت.
لكن هذه المرونة، لا نشهدها في الدول العربية، خصوصاً تلك التي تعصف بها
أزمات وتقضّها حالات متقطّعة من اللا-استقرار. فالتسرّب فيها، في معظم
الأحول، إلى غير رجعة.
أبو علي رجل في مقتبل العمل، يعمل ميكانيكي سيارات في أحد شوارع بيروت.
رأى جاره مشغول البال فقال له ليهدّئه: «يا استاذ هذا البلد ليس بلد علم».
وأثبت قوله هذا بنجاح ولديه في العمل والحياة بعد تسرّبهما من المرحلة
المتوسطة، «الأول يعمل ميكانيكياً والثاني سائق سيارة أجرة. ولدى كل منهما
منزل وعائلة وأولاد». وقصد الرجل أن هذا البلد (أي لبنان) هو بلد
«الواسطة» التي يحتاج إليها حامل الشهادة قبل غيره. الحال التعليمية في
لبنان ومصر حسنة، على ما يبدو، تثبتها بعض الأرقام التي تلحظ مشكلات
أيضاً. ولكن كيف نردّ على أرقام «الواقع» (أو أرقام أبو علي) التي تشير
إلى نجاح أيضاً.
واللاجئون الفلسطينيون في المخيّمات في لبنان، ينتظرون «أمراً» ينقذهم من
إحدى مآسيهم، فشهادات الخرّيجين معلّقة على الحائط. والتلامذة، كما تلامذة
العراق، لا يأسفون على ترك المدرسة.
*****************************
أخيراً، الوضع في الجزائر
ظلت المدرسة الجزائـريـة، منذ الاستقلال عام 1962، «مختبراً» لمشاريع
إصلاح عـديـدة. وحين تـولّى السلطة الرئيـس بوتـفـليـقـة في 1999، أعلن عن
ورشات إصلاح عـديـدة ومتـنوّعـة، كان أبـرزها ورشـة إصلاح المنظومة
التربوية. ووجهت انتقادات حادة إلى اللجنة المكلّفة إدارة الإصلاح
التربوي، عقب إلغاء تخصص الشريعة الإسلامية في المرحلة الثانوية، وتقديم
تدريس اللغة الفرنسية إلى السنـة الثالثة، ما وصف بأنه استجابة للضغوط
الأميركية وخضوع للتيار الموالي لفرنسا. وتفضل شريحة من الجزائريين تجاهل
هذا «الجدل» بعد أن حـسمت أمـرها لمصلحـة تـدريـس أبنائها في مدارس خاصة
جزائرية أو أجنبية، أو إرسالهم إلى الخارج.
ثم اعتمدت الحكومة 108 مدارس خاصة، اشترطت عليها التدريس باللغة العربية
ووفقاً لمناهج التربية الجزائرية. وخضع كثير منها للقرار عن قناعة، أو تحت
الضغط، إذ لجأت الحكومة إلى غلق بعض ممن تردد في الاستجابة للشروط.
ويقول إبراهيم (40 عاماً و أب لطفلين): «الإصلاح يقتضي أن نأتي بأحسن
المناهج ونطبقها، ولا أفهم لماذا تلجأ الحكومة إلى تقديم تدريس الفرنسية،
بدل التركيز على تدريس اللغة العربية التي يعاني التلاميذ ضعفاً كبيراً في
إتقانها... وإذا كنا نتذرع بضرورة تلقين الأولاد اللغات الأجنبية ومواكبة
العصر، فالأوفى أن نعلمهم الانكليزية لأنها لغة العلوم والتكنولوجيا».
في المقابل ترى فاطمة (35 عاماً) أستاذة في مدرسة ابتدائية أن الإصلاحات
الجديدة إيجابية من ناحية تعديل البرامج التربوية القديمة، ولكّنها لا
تفهم الفائدة من تدريس تلاميذ السنة الثانية ابتدائي مقررات التكنولوجيا،
مثلا، فهناك «اكتظاظ في المقررات المدرسية تجعل الأطفال ينفرون من الدراسة
بسبب التعب، وثقل محفظاتهم بالكتب والمراجع».
وتخصص الجزائر 3.4 بليون يورو سنوياً لقطاعات التربية والتعليم والتكوين
المهني. وتحلّ وزارة التربية الوطنية في المرتبة الثانية من ناحية حجم
الموازنة المخصصة لها، بعد وزارة الدفاع.
وعلى رغم جهود الإصلاح والتحسين، تفضّل كثرة من الجزائريين، من ذوي الدخل
المرتفع، تدريس لأبناء في مدارس خاصة، ولا سيما الأجنبية منها، أو إرسالهم
إلى الخارج لتلقي تكوين علمي مضمون. وعزاؤهم في ذلك، أن المسؤولين
الجزائريين الذين يتغنون بالإصلاحات يرسلون أبناءهم للدراسة في دول أخرى،
ليعودوا لقيادة البلاد بعد ذلك!
وتقول منال (17 عاماً): «اخترت متابعة دراستي في الثانوية الدولية
الفرنسية بعد أن اطلعت على المقررات الدراسية التي تقدمها من إحدى
صديقاتي، وأريد أن أضمن الالتحاق بإحدى الجامعات الفرنسية بعد نيل شهادة
البكالوريا».
ولم تكن التحولات الاقتصادية التي تعرفها الجزائر ودخولها عهد اقتصاد
السوق لتمر من دون التأثير على المدرسة الجزائرية، فالدولة باتت تدعم
معاهد التكوين وفتح مراكز جديدة لجلب التلاميذ إلى تخصصات تضمن لهم
التأهيل في حرف تتيح لهم العمل مستقبلاً، وذلك لامتصاص الاكتظاظ الذي
تعرفه المدارس، ووضع حد لظاهرة الطلبة المتخرجين بشهادت جامعية بعد سنوات
طويلة من التعليم، دونما وظيفة.
وتشجّع الدولة التلاميذ وأولياءهم على اختيار تخصصات البناء والعمران
والهندسة والإعلام الآلي والاقتصاد، تماشياً مع دخول الجزائر عهد اقتصاد
السوق وحاجتها إلى مهندسين ومعماريين لمواجهة مشكلة السكن. وفي المقابل،
لا يزال الكثير من الأولياء يفضلون تكوين أبنائهم في تخصص الطب والحقوق،
بينما يميل آخرون إلى عالم الأعمال. وبعيداً من تلك الإصلاحات، لا تزال
المدرسة الجزائرية تواجه شبح تسرب الملايين من التلاميذ بسبب تدنّي دخل
الأسر، على رغم تخصيص الحكومة سنوياً منحة 2000 دينار لعائلات التلاميذ
المعوزين، وتوفير الكتاب المدرسي مجاناً، فضلاً عن تمسك الجزائر بسياسية
التعليم المجاني للجميع إلى غاية سن 16 عاماً.
31 في المئة ... «تسرّب»
في دراسة أجريت حول الظاهرة، شملت 2979 طفلاً من بينهم 702 إناث، عبر
ثماني ولايات، وأجراها طلبة بكليات الطب، ظهر أن 56 في المئة من
المستجوبين انتهى مشوارهم الدراسي في المرحلة التكميلية، و31 في المئة لا
يتعدى مستواهم الدراسي الابتدائي، و31 في المئة من الأطفال قالوا إنهم
غادروا مقاعد الدراسة، إرادياً.
وتقدم الدراسة قائمة طويلة للمهن التي يحترفها هؤلاء، فيأتي في رأسها بيع
السجائر على قارعة الطريق، يليها بيع الخبز، إلى 69 مهنة أخرى على
اللائحة. ويعمل 28 في المئة من هؤلاء الأطفال بعيداً من عائلاتهم.
وفي الجزائر 26.5 في المئة (أي اكثر من 8 ملايين شخص) من الأميين، وكانوا
يشكلون 85 في المئة، في 1962، عام استقلال البلاد. وفيها حالياً 23 ألف
مدرسة، ما سمح بمضاعفة عدد التلاميذ ليصل إلى 8 ملايين حالياً، مقابل 800
ألف (في 1962).
**********************************
البيداغوجيا الفرنسية الجديدة أعطت «براهينها» ... النظام التربوي الأكثر كمالاً في العالم... «معطل»
باريس - ندى الأزهري
«لم يعد أولادنا يعرفون القراءة ولا الحساب ولا التفكير... وخلال عشرين
سنة، قُضي على ما بنته الجمهورية في قرن من الزمن». حقيقة فاجعة يشير
إليها الكاتب جان - بول بريغلي في كتابه «تصنيع البله. الموت المبرمج
للمدرسة»، الذي صدر العام الماضي في فرنسا، لكنه لا يزال، إلى اليوم، يثير
النقاشات الحادة بين مؤيد ومعارض، ولا سيما الآن مع العودة إلى المدارس،
وبعد صدور كتاب آخر للمؤلف نفسه حول التعليم في فرنسا، أيضاً. يرثي هذا
المربي حال النظام التعليمي الفرنسي الذي كان من «الأفضل في العالم كله
والأكثر كمالاً»، والمدرسة الفرنسية التي كانت «الأولى في أوروبا». فهذا
النظام أصبح اليوم «معطلا»، ولم يعد كالسابق المحرك الأساسي للصعود
الاجتماعي، فـ «هؤلاء الذين ولدوا في الشارع سيبقوْن من الآن فيه». وتحول
هذا النظام أيضاً إلى «مصنع لإنتاج البله... والأفراد المنضبطين،
والقابلين للتشكيل».
«ماتت المدرسة»، يعلن الكاتب الذي قدم مسحاً شاملاً للوضع التعليمي في
فرنسا، مبينا حقائق لا يستطيع إنكارها حتى المعارضون له، ونظرة سوداوية
وصفت الآباء بأنهم مذعورون من ملاحظتهم لكل ما لا يتعلمه أولادهم، وبأن
الأساتذة مثقلون بالإرشادات الحمقاء، وبأن البرامج غبية.
آراء لقيت تأييداً من الآباء والطلاب وأيضاً من بعض زملاء المهنة. وأبرز
الكاتب ما يعانيه هؤلاء من قلق حقيقي إزاء ما يحصل من تدهور المعارف،
وهبوط مستوى المناهج، وازدياد الأعداد في الصفوف (بمعدّل 27 تلميذاً في
الصف)، مقابل خفض في عدد الساعات لكل المواد.
ويؤرق إحدى الطالبات (18 سنة)، ومنذ زمن طويل «عدم جدوى النظام التعليمي».
وتعترف بأنها تعلمت القراءة بالاعتماد على نفسها لا في المدرسة، بينما
يشغل بال الأهالي ضعف أبنائهم في القراءة والكتابة وينظرون إلى غلبة
النشاطات المدرسية بعين غير راضية. وتقول إحدى الأمهات: «يقضون الوقت في
النطنطة من نشاط إلى آخر. ثم نندهش من أنهم لا يكتبون سطراً من دون أربعة
أو خمسة أخطاء!»
ويؤكد أحد الأساتذة أن دور الأستاذ لم يعد نقل المعرفة وأن دور التلميذ لم
يعد تعلم هذه المعرفة. فالمدرسة، برأيه، «لم تعد مكاناً للمعرفة، أو
للثقافة، إلا للأغنياء ربما (!)، فلا مكان للآخرين ولا لأولاد العمال
الذين يعيشون في الضواحي القاسية». ويشير هذا التحليل إلى مشكلة خطيرة
تعانيها المدارس وهي تفاوت المستوى التعليمي، بحسب المناطق. فكل طالب يسجل
في المدرسة الواقعة في منطقة سكنه. وهكذا يرتاد أولاد الأغنياء مدارس
الأحياء الراقية وأولاد الفقراء مدارس أحيائهم الفقيرة. وتجد المدرسة
نفسها بذلك، وبلا قصد، داعمة قوية للتمايز الطبقي.
هذا ما يشير إليه أيضاً بروفسور، كتب في تعليق على الكتاب عن «تعزيز جهل
أولاد الطبقة العمالية، وعن الثانويات الكبرى التي (لا تزال) تكمل عملها
بنقل المعارف وتحافظ بذلك على خزان النخبة بالقرب من أحواض الفقراء». وهذه
المشكلات التي تعانيها مدارس الأحياء الفقيرة والضواحي تدفع ببعض الأسر
فيها إلى التحايل على النظام للتمكن من تسجيل أولادهم في المدارس الحكومية
الجيّدة أو في المدارس الكاثوليكية الخاصة التي تستقطب 17 في المئة من
الطلاب.
وعلى رغم اعتراف آخرين بنقاط ضعف النظام المدرسي، يتهمون المؤلف بالحنين
إلى الماضي، «الزمن الجميل عندما كانت القواعد مملة والمدرسة أكثر مللاً
وكآبة، فلا ينتظر التلاميذ إلا الفرصة والعطلة». ويبرر المسؤولون هذا
الوضع بوصول 80 في المئة من الطلاب إلى الشهادة الثانوية الآن، مقابل 15
في المئة من قبل أربعين سنة، والباقي ينصرف إلى المصانع. ويشكو أحد
المدرّسين بالقول: «ما العمل مع تلاميذ يأتونك ورأسهم محشو بساعات من
المشاهدة التلفزيونية؟! ولا يأبهون للدروس ولا لسماع الإرشادات؟». ويعبر
آخر: «أشعر بأني وحدي في مواجهة المؤسسة والأهل والمجتمع. إنه تيار
وعقليات سائدة تشجع الكسل والاستهلاك ولا تعطي القيمة الواجبة للجهد
والعمل. ليست المدرسة للنزهة إنها مكان لتلقي العلم. ولكن من سيسمع؟!»
على من يجب إلقاء اللوم في التدهور الحاصل؟ على السياسيين، الأساتذة،
الأهل، النقابات، البرامج أم على كل هؤلاء معاً؟ شيء مؤكد تشير إليه أصابع
الاتهام في الكتاب هو البيداغوجيا (الطرق التربوية) الجديدة التي تطبق في
التعليم منذ ثلاثين سنة».
ويعزو المؤلف أسباب قيام هذه المدرسة «الظلامية» إلى الليبرالية الجديدة
التي تحتاج إلى مدرسة قادرة على «تشكيل أفراد قابلين للتكيف، من دون ماض
ولا تاريخ ولا أسس، أي مغفلين خاضعين لرحمة السخرة». ويرى أن المجتمع قد
فهم أن الضرورات الأولى «تصنيع أشخاص غير مثقفين يحتاجهم السوق»، ولهذا
عُمد إلى خفض المستوى وإفقار المناهج التي تترك التلميذ في جهله. فثمة
«تخريب مبرمج للتعليم» بهدف الحصول على يد عاملة رخيصة، متخلية عن الثقافة
الضرورية لانتقاد النظام أو مقاومته. وهو يقول: «الليبرالية الجديدة أعادت
البؤس فكان من المنطقي بموازاة ذلك أن تعيد الجهل».
لقد قامت الدنيا ولم تقعد منذ صدور هذا الكتاب وبدأت الاقتراحات لوضع
الحلول. ولكن أليست المدرسة انعكاساً للمجتمع؟ وبالتالي، هل يمكن لها أن
تبقى في منأى عن تحولاته؟
************************************************** ********************
بيل غيتس يعتبر المنهج التربوي «متخلّفاً» ... «وباء صامت» ينهش مستقبل التعليم في الولايات المتحدة
الولايات المتحدة دولة عظمى، لكنّها عاجزة عن وضع نظام تعليمي يلبي طموحات
ملايين الطلاب، بدلاً من دفع نحو 30 في المئة منهم، سنوياً، الى التخلي عن
التخرج هرباً من «منهج مضجر فارغ»! فالتسرّب المدرسي لعنة تعانيها البلاد،
منذ ما يزيد على 30 عاماً.
وتشير دراسة صادرة عن «معهد مانهاتن» ان من بين 3.5 مليون تلميذ وصلوا الى
الصف الثامن عام 2003 – 2004 (أي بداية المرحلة المتوسطة)، تسرّب منهم
مليون تلميذ. تركوا مقاعد الدراسة، قبل ان يكملوا السنوات الاربع المتبقية
للتخرّج. وعجز مليون تلميذ، تتراوح اعمارهم بين 16 و25 سنة، عن الحصول على
الشهادة الثانوية (هاي سكول)، ويمثل السود وذوو الأصول الاسبانية (من
بلدان أميركا الجنوبية) 45 في المئة منهم، مع الاشارة الى ان نسبة التسرب
المدرسي في الولايات المتحدة، تفوق نسبته في اليابان، بست مرات!
********
مشهد تربوي قاتم
وتتفاعل كل الآفات الاجتماعية والاقتصادية لتشكّل خلفية قاتمة لمشهد
التسرّب المدرسي المتواصل. وتشرح كايث غرال، مدرّسة اللغة الانكليزية في
معهد هنري فورد الجامعي، بعض اسباب التسرّب المدرسي: «التلميذ الاميركي
غالباً ما يكون ضحية ظروف اجتماعية صعبة، كحالات الطلاق المتزايدة، أو
العائلة «المنقوصة» نتيجة غياب الأب، لأسباب كثيرة. وإذا حالفه الحظ ونشأ
في كنف عائلة متماسكة، لا ضمانة أكيدة ليلعب دخل العائلة السنوي دوراً
مؤثراً في تقرير مصيره». وتؤكد ذلك أرقام «المركز القومي للاحصاءات
التربوية». ففي العام 2001، بلغت نسبة التسرّب المدرسي نتيجة الدخل
العائلي السنوي المتدني 10.7 في المئة، مقابل 5.6 في المئة للدخل المتوسط،
و1.7 في المئة للدخل المرتفع.
***********
عقدة الغباء!
و«تزداد اسباب التسّرب المدرسي سوءاً من مدينة إلى أخرى»، تقول غرال. ففي
ديترويت، معقل الاميركيين الافارقة، يواجه من حظي بفرصة الاستمرار في
المدرسة عقبات من نوع آخر. وتشرح غرال: «المعلمة هناك قد تمارس كل أنواع
الوظائف ويكون آخرها التعليم. فهي مضطرة إلى لعب دور المصلحة الاجتماعية
في مجتمع لم يتوصل احد الى اصلاحه. وفي حالات اخرى، هي مرشدة تربوية عليها
ان تعرف كيف تنتشل التلامذة من فكرة «اننا اغبياء»، نتيجة عقم المنهج
التربوي»! لكن الاخطر من ذلك، كيف يمكن لمدرّسة ان تأتي كل صباح الى مدرسة
هي اشبه بالثكنة، يحيط بها حراس مسلّحون، ويخضع كل تلميذ للتفتيش خوفاً من
ادخال الاسلحة. وتتنهد غرال طويلاً، من وطأة الأزمة: «هنا، المدرسة تصلح
لكل شيء الاّ... للتعليم!»
وتبين احدى الدراسات ان في ثلاث مدن كبرى، يتخرّج من مدارسها أقل من 40 في
المئة من التلامذة، وهي ديترويت 21 في المئة، بالتيمور 38.5 في المئة
ونيويورك 38.9 في المئة.
************
الضجر رفيق الطالب
و«الضجر» من أبرز الدوافع إلى التسرّب في المرحلة الثانوية. ويقدّر أن 47
في المئة من التلامذة الذين تركوا الدراسة عام 2004، أفادوا بأن الصفوف لم
تثر اهتمامهم، وهي مضجرة إلى درجة يتعذّر عندها الاستمرار. ويأتي «الغياب
عن صفوف كثيرة» في المرتبة الثانية، ونسبته 34.5 في المئة. اما «الاضطرار
إلى العمل» فيحتل المرتبة الثامنة في جدول الاسباب والدوافع بنسبة 27.8 في
المئة.
وتشير دراسة اخرى الى ان 38 في المئة من الطلاب المتسرّبين اعتبروا ان من
الاسباب التي دعتهم إلى ترك المدرسة هو انها تقدم «الكثير من الحرية
والقليل من القوانين»! واعترف 74 في المئة من المتسرّبين بأنهم سيعودون
مجدداً الى مقاعد الدراسة، إذا سمحت لهم الظروف بذلك.
والوصول الى المعهد الجامعي لا يعني التخلّص من لعنة التسّرب المدرسي.
وتشير دراسة «التسرب المدرسي: وباء صامت»، التي انجزت لمؤسسة «بيل
وميليندا غايتس»، ان ثلث عدد التلاميذ الذين انهوا دراستهم الثانوية فقط
هم مؤهلون للانتساب إلى الجامعات والمعاهد العليا. وبقية الطلاب من اصحاب
الدخل المتدني والاقليات عالقون بما اختاروه من مواد دراسية فشلت في
تحضيرهم للجامعة والعمل وحتى للحصول على الجنسية!
وينتقد بيل غايتس، عبر موقع المؤسسة الالكتروني، المنهج التربوي الاميركي
ويصفه بـ «المتخلف»، مشيراً إلى ان التلامذة الثانويين يحتلون المرتبة
الأخيرة في مادتي الرياضيات والعلوم مقارنة بطلاب الدول الصناعية الأخرى.
****************
حلول ضائعة
وعلى رغم الأموال الطائلة التي تُصرف سنوياً لتطوير المناهج الدراسية في
الولايات المتحدة، لم يطرأ اي تغيير على المشهد التربوي. والمبالغ التي
خصصتها الحكومة للمدارس الثانوية، 54.4 بليون دولار في 2007، تزيد بنسبة
5.5 في المئة (أي نحو 3.1 بليون دولار) عن العام الحالي. ومقارنة بحصّة
الثانوي في 2001، بلغت الزيادة 12 بليون دولار، أي بنسبة 29 في المئة.
«اين يذهبون بكل هذه الاموال بوجود كل هذا التسّرب المدرسي؟»، تسأل غرال،
ثم تستدرك: «حان الوقت للولايات المتحدة ان تترك دول العالم تهتم بشؤونها،
لتلتفت الى مجتمعها الذي يطفو على بركان خامد من المشكلات الداخلية».
****************
نتائج كارثية
ويؤكد عدد من الخبراء الاميركيين ان عدد المتسّربين من المدارس سيتزايد
حتى 2020... الا اذا حصلت معجزة. وإلى حين حصولها، تؤكد دراسة «الوباء
الصامت» ان اميركا ستواجه، في 2020، عجزاً في اليد العاملة من حملة
الشهادات الجامعية يبلغ 14 مليون شخص.