هذه -كسورة العصرْ- التي تَنَاولْنَاهَا بالتفسير في حلقاتٍ أربع -من قِصار المفصَّل- آياتها اثنتان وعشرون أُنزلت بعد سورة الشمس في مكة، والرعيل الأول من السلف الصالح -جيل القرآن الأول- يتربَّى على عيْن الله في كنف المكابدة والمعاناة لأذى وقذى وثنية قريش فَيَصْبِرُ ويصابر متحملا ما كانت تُصليه من سوء العذاب وشديد العقاب. وَاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يكون ذلك كذلك ليخرج هذا الجيل القرآني للنَّاس أصلب عُوداً وَأشدَّ بأساً في مواجهة أعباء حمل أمانة الدّين إلى العالمين وحمل تكاليفها بقوة واقتدار بلا نكوص ولا نكول.
وسنجد في هذه السورة أنَّ الله يقصُّ عليهم-وعلينا من بعدهمْ وعلى أجيال البشرية في كل زمان ومكان -أنباء ثُلَّةٍ من النّصارى الُمُوَحِّدين من أشياع وأتباع عبد الله ورسوله عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم- خاتم أنبياء بني إسرائيل عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، تعرّضتْ للتّحريق على أيدي أصحاب الأخدود بسبب تأبِّيها الشامخ على الفتنة في دينها وثباتها الرّاسخ على عقيدتها التي غالت بها فقدّمت حياتها فداءً لها ورضيت بالموت في سبيل إعزازها. وَلَمَّا فعلت ذلك راضية بالله وعن الله وهبها الله الحياة.. وفي هذا النّبأ ما فيه من التَّثبِيت لقلوب ذلكم الجيل القرآني الفذّ ومن شحنات الدفع له على طريق مفاداة دينه القويم بالروح والدَّم. كما فيه ما فيه من الإيحاء بأنَّ الرّبّ الجليل يصنع بعباده المؤمنين الْخُلَّص ما يشاءُ لهُم بمقتضى حكمته ورحمته فهو –سُبحانَه- إن شاء نَصَرهم على عدُوّهم بما ومن أراد وإن شاء كتب عليهم القتل ليفوزوا بالشهادة ويلحقوا بجواره الكريم مُكرَّمين مُعزَّزين تحتفُّهم الملائكة في مواكب زفّهم إلى جنات الخلود، وإن شاء انتصر لهم فأهلك عدُوَّه وعدُوَّهم وإن شاء أمْهل أخْذه وأملى له حتى إذا أخذه لم يُفلتْه. وَفي السُّورة موحيات بأنه ترك أصحاب الأخدود فلم يثأر لضحاياهم مُعْجِلا بل إنّه عقب على الحادث الفاجع المفجع بما يفيد العموم فَجَعَلَ باب التَّوبة مُشْرَعاً أمام كل الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات في دينهم –تعذيباً وتنكيلاً وتقتيلاً- فإن هم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق يوم ينقلبون إليه في يوم ما لهم فيه من ملجأ وما لهم فيه من نكير.
والله الكريم الحكيم يفعل ما يشاء ولا يُسأَلُ عمّا يفْعل وحسْبُ المؤمن الخالص أن يركن إليه وأن يسكن إلى قدره وأن يفوّض أمره كله إليه. فقد ذكر في السّورة التي بين أيدينا أن بطشه شديد وأنه فعّال لما يُريد وأنه أَخَذَ أَخْذَ عزيز مقتدر فرعون وثمود وكل جنود الباطل والضلال.
فلْنَذكُرْ أنّه تحدّث في السّورة التي قبلها وهي سورة -الانشقاق- عن علمه بما يُجمِع المبطلون للرسول الكريم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ولجيله القرآني الأول من المكر والخداع والإِيذَاء لِمَن أسلم بأنواع الأذى كالضرب والقتل والإلقاء في حُمَارَّة القيظ. وهَا هو -سبحانه- في هذه السورة يُذكرنا بأن هذه هي شِنْشِنَةُ من تقدّمهم وتَقدّمنا من الأمم. فقد عَذَّبَ أصحابُ الأخدود بالنّار رجالاً من المؤمنين النصارى ونساءً وأطفالاً ذهبوا طعمةً سائغةً لأُوارِهَا اللَّهَّاب ولهبها الأوَّار.
ولكن ما قصة أصحاب الأخدود أولاً. وما هي فصولها وحلقاتُ مَاْساة ضحاياها؟.
أُفضِّلُ أن أسرد النّبأ مفصّلاً كَمَا قَصّه علينا نبيُّنا الخاتم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- من خلال حديث صحيح رَوَاهُ أبو يحيى -صهيب الرومي-رضي الله عنه- وأوردَهُ شيوخ الحديث في الصحاح والمسانيد والسنن.
قصة أصحاب الأخدود كما وردت في كتب السنة.
أخرج عبد الرّزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذيّ والنسائيّ والطبرانيّ عن صهيب الروميّ المُكنَّى ~أبا يحيى~ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: [كان ملك من الملوك فيمن كان من قبلكم وكان لذلك الملك كاهن يَكْهنُ له فلمّا كبرت سنُّه قال للملك إني -كما ترى- قد كبِرتْ سنّي وأرى أن الرحيل قد أزف فانظر لي غلاماً فَهِماً فَطِناً لَقِِناً فأعلِّمَهُ علمي فإني أخاف أن أموت فيُقطعَ منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يَعْلَمُه فيُعلِّمَهُ. فنظروا له على ما وصف وأمروهُ أن يَحضُرَ ذلك الكاهنَ وأن يختلف إليه.. فجعل الغُلاَمُ يتردّد عليه.. وكان على طريق الغلام راهب في صومعةٍ فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلّما مرّ به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله ولا أشركُ به شيئاً. فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب وَيُبْطِئُ على الكاهن. فأرسل الكاهن إلى أهل الغلامُ أنه لا يكاد يَحضُرني. فأخبر الغلام الراهب فقال له الراهب: ضربك الساحرُ وضربَك أهلُك من أجل أن تُفصِح عن سبب انحباسك عن تعليم الكاهن. فإذا عادوا إلى ضربك فقل للأول: كنتُ عند أهلي وقل للآخرين كنت ُ عند الساحر.فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعةٍ من النّاس حبستْهم دابّة فظيعة عظيمة فمنعتهم من المرور إلى معايشهم فقال الغلام: "اليوم أعلمُ أَأمرُ الرّاهب أحبُّ إلى الله أم أمرُ الكاهن وقال: اللّهمَّ إن كان أمرُ الرّاهب أحبَّ إليك وأَرْضَى من أمر الساحر فاقتُلْ هذه الدّابة حتّى يَجُوزَ النَّاسُ. فماتت الدّابة.. وأخبر الراهبَ بذلك فقال أيْ بُنيِّ أنت أفضلُ مني وإنك سَتُبْتَلَى فإن ابتُليتَ فلا تدُلَّ عليَّ. وَجعل الغلامُ بعد هذا يُبرئُ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء وَيشفي أصحاب الأسقام. وكان للملك جليس أعمى فسمع به فأتاهُ بهدايا كثيرة فقال: "اشفني ولك ما هَاهُنا قال الغلامُ: "ما أنا بالشافي لأحد من الناس وإنما الشافي الله عز وجل فَإِنْ آمنتَ به دعوته لك فشفاك قال: "أفعل" فدعا له الله فشفاهُ الله فآمن، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك يا فلان من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي، قال: أنا؟ قال: هو ربّي وربك، قال: أولك ربٌّ غيري؟ قال نعم هو ربّي وربُّك. فلم يزل يُعذِّبه هتى دلّ على الغلام فأمر بإحضاره فقال: أيْ غلام؟ أَبَلَغَ من سحرك أنكَ تُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحداً إنما الذي يشفي هو الله عز وجل. قال: أولك ربٌّ سواي؟ قال: نعم ربّي الله وهوربُّ كلُ شيء فأخذه بالعذاب فلم يزلْ به حتى دلّ على الرّاهب. فأُتِيَ بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى فوُضع المنشارُ على مرفق رأسه حتّى وقع شقّاه وقال للأعمى الذي ردّ الله عليه بصره اِرْجع عن دينك فأبى فوُضع المنشار على مرفق رأسه حتى وقع شقاه على الأرض وقال للغلام ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر من رجاله إلى جبل ليُدهدِهُوه منه فلمّا عَلوْا به الجبل قال اللهم اكْفِنِيهمْ بما شئت فرجف بهم الجبل فَدُهْدِهُوا أجمعون...
وجاء الغلام يتلمّس حتى دخل على الملك فقال ما فعل بك رجالي؟ فقال كفانيهم الله. فبعث به مع نَفَرٍ من حَاشِيَتِه وزبانِيَته في قَرقُور وقال: إذا لَجّجْتُم به البحر، فإن رجع فَبِهَا وإلا فغرّقوه فلجَّجُوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فَغَرِقُوا أجمعون...
ودخل الغلام على الملك فقال: ما فعل بك رجالي؟ قال: كفانيهم الله عز وجل ثم قال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتَني وإلاّ فلن تستطيع قتلي قال: وما هو؟ قال تجمع النّاس في صعيد واحد ثم تصلُبُني في جذع النخل وتأخذ سهماً من كنانتي ثم تقول: بسم الله ربّ الغلام. فإنك إذَا فعلت ذلك قتلْتَني. ففعل كما قال... وآمن النّاس بربّ الغلام -فقال حاشية الملك للملك: أرأيت ما كنت تَحذَرُ فقد -والله- نزل بك فَهاهُمُ النَّاسُ قد آمنوا كلهم أجمعون فأمر الملك بأفواه السِّكك فخُدّتْ بها الأخاديد وأُضرِمت فيها النّيران وأَعلنَ في زبانيته أنه من رجع عن دينه فَدعُوه وسرّحوه وَمن أبى فألقوه في سواء الجحيم فَجَعَلَ الزبانية يدفعون بالمؤمنين إلى الأخاديد فكانوا يَتعادوْن فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها تُرضِعُهُ فكأنها تقاعست أن تقع في النّار فقال الصبيّ "يا أمّه اصبري فإنّك على الحق..."].
هذه هي القصة بتفاصيلها المثيرة كما رواها صُهيْبُ الرُّوميُّ عن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وذكرها محمد بن إسحاق مُنصِّصاً على أنّ ضحايا أصحاب الأخدود هم من أهل نجران باليمن وكانوا نصارى موحدّين. وَالذي حرّقهم في النّارِ الموقَدةِ في الأخدود إنما هو الملك الحمْيرَي "ذو نوس" اليهوديّ الذي خيّرهم بين اعتناق اليهوديّة وبين القتل فاختاروا القتل. وقال ابن إسحاق إِنَّهم كانوا اثْنَيْ عشَر ألفاً وفيهم أنزل الله سورة "أصحاب الأخدود".. وذهب إلى أن الغلام-بطلَ القصة- اسمُهُ "عبد الله بن الثامر" وكان على ما جاء به عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم- من الإنجيل قبل أن تطولَهُ يدُ التحريف. وقد روى روايته هذه عن محمد بن كعب القُرظي فخالف براويته هذه ما ورد في سِيَاقِ حديث صهيب عند مسلم وأحمد والترمذيّ وغيرهم.
وَحدّثَ محمدُ بن إسحاق عن رجل من أهل نجران كان في زمن عمر بن الخطاب حَفَر خربة من الْخِرَب لبعض حاجته فوجد "عبد الله بن الثامر" تحت دَفْنٍ فيها واضِعاً يده على صُدْغِه فإذا أُخِذَتْ يدُه عنها ثَعِبَتْ دماً وإذا أُرسِلت أمسكتْ دمَها وفي يده خاتم مكتوب فيه [ربّي الله] فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يُخبره بأمره فكتب عمر إليهم أن أقرّوه على حاله ورُدُّوا الذي كان إليه ففعلوا.
وَروايات ابن إسحاق هذه حسنة كما قال الشوكاني ووثّقها ابن الجوزي لأن ابن إسحاق بَرِئَ فيها من العنعنة وصرّح بالتحديث.
ولْنأخُذ الآن في النّظر الفاحص في نصوص السورة مَعَ تمهيد لنفسرها بتلخيص لِما حملتْه الآياتُ -في تتابُعها السِّيّاقيّ الْمُعْجَزِ- من توجيهات وإيحاءات ومُوحيات وهدايات.
فارقُبْ ميعادنا القادم
وحيَّاكُم الله.
عثمان أمقران. 04
وسنجد في هذه السورة أنَّ الله يقصُّ عليهم-وعلينا من بعدهمْ وعلى أجيال البشرية في كل زمان ومكان -أنباء ثُلَّةٍ من النّصارى الُمُوَحِّدين من أشياع وأتباع عبد الله ورسوله عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم- خاتم أنبياء بني إسرائيل عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، تعرّضتْ للتّحريق على أيدي أصحاب الأخدود بسبب تأبِّيها الشامخ على الفتنة في دينها وثباتها الرّاسخ على عقيدتها التي غالت بها فقدّمت حياتها فداءً لها ورضيت بالموت في سبيل إعزازها. وَلَمَّا فعلت ذلك راضية بالله وعن الله وهبها الله الحياة.. وفي هذا النّبأ ما فيه من التَّثبِيت لقلوب ذلكم الجيل القرآني الفذّ ومن شحنات الدفع له على طريق مفاداة دينه القويم بالروح والدَّم. كما فيه ما فيه من الإيحاء بأنَّ الرّبّ الجليل يصنع بعباده المؤمنين الْخُلَّص ما يشاءُ لهُم بمقتضى حكمته ورحمته فهو –سُبحانَه- إن شاء نَصَرهم على عدُوّهم بما ومن أراد وإن شاء كتب عليهم القتل ليفوزوا بالشهادة ويلحقوا بجواره الكريم مُكرَّمين مُعزَّزين تحتفُّهم الملائكة في مواكب زفّهم إلى جنات الخلود، وإن شاء انتصر لهم فأهلك عدُوَّه وعدُوَّهم وإن شاء أمْهل أخْذه وأملى له حتى إذا أخذه لم يُفلتْه. وَفي السُّورة موحيات بأنه ترك أصحاب الأخدود فلم يثأر لضحاياهم مُعْجِلا بل إنّه عقب على الحادث الفاجع المفجع بما يفيد العموم فَجَعَلَ باب التَّوبة مُشْرَعاً أمام كل الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات في دينهم –تعذيباً وتنكيلاً وتقتيلاً- فإن هم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق يوم ينقلبون إليه في يوم ما لهم فيه من ملجأ وما لهم فيه من نكير.
والله الكريم الحكيم يفعل ما يشاء ولا يُسأَلُ عمّا يفْعل وحسْبُ المؤمن الخالص أن يركن إليه وأن يسكن إلى قدره وأن يفوّض أمره كله إليه. فقد ذكر في السّورة التي بين أيدينا أن بطشه شديد وأنه فعّال لما يُريد وأنه أَخَذَ أَخْذَ عزيز مقتدر فرعون وثمود وكل جنود الباطل والضلال.
فلْنَذكُرْ أنّه تحدّث في السّورة التي قبلها وهي سورة -الانشقاق- عن علمه بما يُجمِع المبطلون للرسول الكريم -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ولجيله القرآني الأول من المكر والخداع والإِيذَاء لِمَن أسلم بأنواع الأذى كالضرب والقتل والإلقاء في حُمَارَّة القيظ. وهَا هو -سبحانه- في هذه السورة يُذكرنا بأن هذه هي شِنْشِنَةُ من تقدّمهم وتَقدّمنا من الأمم. فقد عَذَّبَ أصحابُ الأخدود بالنّار رجالاً من المؤمنين النصارى ونساءً وأطفالاً ذهبوا طعمةً سائغةً لأُوارِهَا اللَّهَّاب ولهبها الأوَّار.
ولكن ما قصة أصحاب الأخدود أولاً. وما هي فصولها وحلقاتُ مَاْساة ضحاياها؟.
أُفضِّلُ أن أسرد النّبأ مفصّلاً كَمَا قَصّه علينا نبيُّنا الخاتم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- من خلال حديث صحيح رَوَاهُ أبو يحيى -صهيب الرومي-رضي الله عنه- وأوردَهُ شيوخ الحديث في الصحاح والمسانيد والسنن.
قصة أصحاب الأخدود كما وردت في كتب السنة.
أخرج عبد الرّزاق وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذيّ والنسائيّ والطبرانيّ عن صهيب الروميّ المُكنَّى ~أبا يحيى~ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: [كان ملك من الملوك فيمن كان من قبلكم وكان لذلك الملك كاهن يَكْهنُ له فلمّا كبرت سنُّه قال للملك إني -كما ترى- قد كبِرتْ سنّي وأرى أن الرحيل قد أزف فانظر لي غلاماً فَهِماً فَطِناً لَقِِناً فأعلِّمَهُ علمي فإني أخاف أن أموت فيُقطعَ منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يَعْلَمُه فيُعلِّمَهُ. فنظروا له على ما وصف وأمروهُ أن يَحضُرَ ذلك الكاهنَ وأن يختلف إليه.. فجعل الغُلاَمُ يتردّد عليه.. وكان على طريق الغلام راهب في صومعةٍ فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلّما مرّ به فلم يزل به حتى أخبره فقال إنما أعبد الله ولا أشركُ به شيئاً. فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب وَيُبْطِئُ على الكاهن. فأرسل الكاهن إلى أهل الغلامُ أنه لا يكاد يَحضُرني. فأخبر الغلام الراهب فقال له الراهب: ضربك الساحرُ وضربَك أهلُك من أجل أن تُفصِح عن سبب انحباسك عن تعليم الكاهن. فإذا عادوا إلى ضربك فقل للأول: كنتُ عند أهلي وقل للآخرين كنت ُ عند الساحر.فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعةٍ من النّاس حبستْهم دابّة فظيعة عظيمة فمنعتهم من المرور إلى معايشهم فقال الغلام: "اليوم أعلمُ أَأمرُ الرّاهب أحبُّ إلى الله أم أمرُ الكاهن وقال: اللّهمَّ إن كان أمرُ الرّاهب أحبَّ إليك وأَرْضَى من أمر الساحر فاقتُلْ هذه الدّابة حتّى يَجُوزَ النَّاسُ. فماتت الدّابة.. وأخبر الراهبَ بذلك فقال أيْ بُنيِّ أنت أفضلُ مني وإنك سَتُبْتَلَى فإن ابتُليتَ فلا تدُلَّ عليَّ. وَجعل الغلامُ بعد هذا يُبرئُ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء وَيشفي أصحاب الأسقام. وكان للملك جليس أعمى فسمع به فأتاهُ بهدايا كثيرة فقال: "اشفني ولك ما هَاهُنا قال الغلامُ: "ما أنا بالشافي لأحد من الناس وإنما الشافي الله عز وجل فَإِنْ آمنتَ به دعوته لك فشفاك قال: "أفعل" فدعا له الله فشفاهُ الله فآمن، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك يا فلان من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي، قال: أنا؟ قال: هو ربّي وربك، قال: أولك ربٌّ غيري؟ قال نعم هو ربّي وربُّك. فلم يزل يُعذِّبه هتى دلّ على الغلام فأمر بإحضاره فقال: أيْ غلام؟ أَبَلَغَ من سحرك أنكَ تُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحداً إنما الذي يشفي هو الله عز وجل. قال: أولك ربٌّ سواي؟ قال: نعم ربّي الله وهوربُّ كلُ شيء فأخذه بالعذاب فلم يزلْ به حتى دلّ على الرّاهب. فأُتِيَ بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى فوُضع المنشارُ على مرفق رأسه حتّى وقع شقّاه وقال للأعمى الذي ردّ الله عليه بصره اِرْجع عن دينك فأبى فوُضع المنشار على مرفق رأسه حتى وقع شقاه على الأرض وقال للغلام ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر من رجاله إلى جبل ليُدهدِهُوه منه فلمّا عَلوْا به الجبل قال اللهم اكْفِنِيهمْ بما شئت فرجف بهم الجبل فَدُهْدِهُوا أجمعون...
وجاء الغلام يتلمّس حتى دخل على الملك فقال ما فعل بك رجالي؟ فقال كفانيهم الله. فبعث به مع نَفَرٍ من حَاشِيَتِه وزبانِيَته في قَرقُور وقال: إذا لَجّجْتُم به البحر، فإن رجع فَبِهَا وإلا فغرّقوه فلجَّجُوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فَغَرِقُوا أجمعون...
ودخل الغلام على الملك فقال: ما فعل بك رجالي؟ قال: كفانيهم الله عز وجل ثم قال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتَني وإلاّ فلن تستطيع قتلي قال: وما هو؟ قال تجمع النّاس في صعيد واحد ثم تصلُبُني في جذع النخل وتأخذ سهماً من كنانتي ثم تقول: بسم الله ربّ الغلام. فإنك إذَا فعلت ذلك قتلْتَني. ففعل كما قال... وآمن النّاس بربّ الغلام -فقال حاشية الملك للملك: أرأيت ما كنت تَحذَرُ فقد -والله- نزل بك فَهاهُمُ النَّاسُ قد آمنوا كلهم أجمعون فأمر الملك بأفواه السِّكك فخُدّتْ بها الأخاديد وأُضرِمت فيها النّيران وأَعلنَ في زبانيته أنه من رجع عن دينه فَدعُوه وسرّحوه وَمن أبى فألقوه في سواء الجحيم فَجَعَلَ الزبانية يدفعون بالمؤمنين إلى الأخاديد فكانوا يَتعادوْن فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها تُرضِعُهُ فكأنها تقاعست أن تقع في النّار فقال الصبيّ "يا أمّه اصبري فإنّك على الحق..."].
هذه هي القصة بتفاصيلها المثيرة كما رواها صُهيْبُ الرُّوميُّ عن الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وذكرها محمد بن إسحاق مُنصِّصاً على أنّ ضحايا أصحاب الأخدود هم من أهل نجران باليمن وكانوا نصارى موحدّين. وَالذي حرّقهم في النّارِ الموقَدةِ في الأخدود إنما هو الملك الحمْيرَي "ذو نوس" اليهوديّ الذي خيّرهم بين اعتناق اليهوديّة وبين القتل فاختاروا القتل. وقال ابن إسحاق إِنَّهم كانوا اثْنَيْ عشَر ألفاً وفيهم أنزل الله سورة "أصحاب الأخدود".. وذهب إلى أن الغلام-بطلَ القصة- اسمُهُ "عبد الله بن الثامر" وكان على ما جاء به عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم- من الإنجيل قبل أن تطولَهُ يدُ التحريف. وقد روى روايته هذه عن محمد بن كعب القُرظي فخالف براويته هذه ما ورد في سِيَاقِ حديث صهيب عند مسلم وأحمد والترمذيّ وغيرهم.
وَحدّثَ محمدُ بن إسحاق عن رجل من أهل نجران كان في زمن عمر بن الخطاب حَفَر خربة من الْخِرَب لبعض حاجته فوجد "عبد الله بن الثامر" تحت دَفْنٍ فيها واضِعاً يده على صُدْغِه فإذا أُخِذَتْ يدُه عنها ثَعِبَتْ دماً وإذا أُرسِلت أمسكتْ دمَها وفي يده خاتم مكتوب فيه [ربّي الله] فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يُخبره بأمره فكتب عمر إليهم أن أقرّوه على حاله ورُدُّوا الذي كان إليه ففعلوا.
وَروايات ابن إسحاق هذه حسنة كما قال الشوكاني ووثّقها ابن الجوزي لأن ابن إسحاق بَرِئَ فيها من العنعنة وصرّح بالتحديث.
ولْنأخُذ الآن في النّظر الفاحص في نصوص السورة مَعَ تمهيد لنفسرها بتلخيص لِما حملتْه الآياتُ -في تتابُعها السِّيّاقيّ الْمُعْجَزِ- من توجيهات وإيحاءات ومُوحيات وهدايات.
فارقُبْ ميعادنا القادم
وحيَّاكُم الله.
عثمان أمقران. 04
المرجع: جريدة البصائر 13/05/1429