الرحمن الرحيم:
الرحمن على وزن فعلان والرحيم على وزن فعيل ومن المقرر في علم التصريف في اللغة العربية ان الصفة فعلان تمثل الحدوث والتجدد والامتلاء والاتصاف بالوصف الى حده الاقصى فيقال غضبان بمعنى امتلأ غضبا (فرجع موسى الى قومه غضبان اسفا) لكن الغضب زال (فلما سكت عن موسى الغضب) ومثل ذلك عطشان، ريان، جوعان يكون عطشان فيشرب فيذهب العطش
اما صيغة فعيل فهي تدل على الثبوت سواء كان خلقة ويسمى تحول في الصفات مثل طويل، جميل، قبيح فلا يقال خطيب لمن ألقى خطبة واحدة وانما تقال لمن يمارس الخطابة وكذلك الفقيه.
هذا الاحساس اللغوي بصفات فعلان وفعيل لا يزال في لغتنا الدارجة الى الآن فنقول بدا عليه الطول (طولان) فيرد هو طويل (صفة ثابتة) فلان ضعفان (حدث فيه شيئ جديد لم يكن) فيرد هو ضعيف (هذه صفته الثابتة فهو اصلا ضعيف)
ولذا جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معا فلو قال الرحمن فقط لتوهم السامع ان هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره. ولو قال رحيم وحدها لفهم منها ان صفة رحيم مع انها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة انما قد تنفك مثلا عندما يقال فلان كريم فهذا لا يعني انه لا ينفك عن الكرم لحظة واحدة انما الصفة الغالبة عليه هي الكرم.
وجاء سبحانه بالصفتين مجتمعتين ليدل على ان صفاته الثابتة والمتجددة هي الرحمة ويدل على ان رحمته لا تنقطع وهذا ياتي من باب الاحتياط للمعنى وجاء بالصفتين الثابتة والمتجددة لا ينفك عن احداهما انما هذه الصفات مستمرة ثابتة لا تنفك البتة غير منقطعة.
فلماذا اذن قدم سبحانه الرحمن على الرحيم؟ قدم صيغة الرحمن والتي هي الصفة المتجددة وفيها الامتلاء بالرحمة لابعد حدودها لان الانسان في طبيعته عجول وكثيرا ما يؤثر الانسان الشيئ الآتي السريع وان قل على الشيئ الذي سيأتي لاحقا وان كثر (بل تحبون العاجلة) لذا جاء سبحانه بالصفة المتجددة ورحمته قريبة ومتجددة وحادثة اليه ولا تنفك لان رحمته ثابتة. ووقوع كلمة الرحيم بعد كلمة الرب يدلنا على أن الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا وفيها اشارة الى ان المربي يجب ان يتحلى بالرحمة وتكون من ابرز صفاته وليست القسوة والرب بكل معانيه ينبغي ان يتصف بالرحمة سواء كان مربيا او سيدا او قيما وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.
مالك يوم الدين:
هناك قراءة متواترة (ملك يوم الدين) بعض المفسرين يحاولون تحديد اي القراءتين اولى وتحديد صفة كل منهما لكن في الحقيقة ليس هناك قراءة اولى من قراءة فكلتا القراءتين متواترة نزل بهما الروح الامين ليجمع بين معنى المالك والملك.
المالك من التملك والملك بكسر الميم (بمعنى الذي يملك الملك)
وملك بكسر اللام من الملك بضم الميم والحكم (اليس لي ملك مصر) الملك هنا بمعنى الحكم والحاكم الاعلى هو الله تعالى.
المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون والملك قد يكون مالكا وقد لا يكون. المالك يتصرف في ملكه كما لا يتصرف الملك (بكسر اللام) والمالك عليه ان يتولى امر مملوكه من الكسوة والطعام والملك ينظر للحكم والعدل والانصاف. المالك اوسع لشموله العقلاء وغيرهم والملك هو المتصرف الاكبر وله الامر والادارة العامة في المصلحة العامة فنزلت القراءتين لتجمع بين معنى المالك والملك وتدل على انه سبحانه هو المالك وهو الملك (قل اللهم مالك الملك) الملك ملكه سبحانه وتعالى فجمع بين معنى الملكية والملك
مالك يوم الدين، لم لم يذكر الدنيا؟ سواء كان مالكا او ملكا فلماذا لم يقل مالك يوم الدين والدنيا؟
اولا قال الحمد لله رب العالمين فهو مالكهم وملكهم في الدنيا وهذا شمل الدنيا. مالك يوم الدين هو مالك يوم الجزاء يعني ملك ما قبله من ايام العمل والعمل يكون في الدنيا فقد جمع في التعبير يوم الدين والدنيا وبقوله يوم الدين شمل فيه الدنيا ايضا.
لم قال يوم الدين ولم يقل يوم القيامة؟ الدين بمعنى الجزاء وهو يشمل جميع انواع القيامة من اولها الى آخرها ويشمل الجزاء والحساب والطاعة والقهر وكلها من معاني الدين وكلمة الدين انسب للفظ رب العالمين وانسب للمكلفين (الدين يكون لهؤلاء المكلفين) فهو انسب من يوم القيامة لان القيامة فيها اشياء لا تتعلق بالجزاء اما الدين فمعناه الجزاء وكل معانيه تتعلق بالمكلفين لان الكلام من اوله لآخره عن المكلفين لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.
لماذا قال مالك يوم واليوم لا يملك انما ما فيه يملك والسبب لقصد العموم ومالك اليوم هو ملك لكل ما فيه وكل من فيه فهو اوسع وهو ملكية كل ما يجري وما يحدث في اليوم وكل ما فيه ومن فيه فهي اضافة عامة شاملة جمع فيها ما في ذلك اليوم ومن فيه واحداثه وكل ما فيه من باب الملكية (بكسر الميم) والملكية (بضم الميم)
اقتران الحمد بهذه الصفات احسن واجمل اقتران. الحمد لله فالله محمود بذاته وصفاته على العموم والله هو الاسم العلم) ثم محمود بكل معاني الربوبية (رب العالمين) لان من الارباب من لا تحمد عبوديته وهو محمود في كونه رحمن رحيم، محمود في رحمته لان الرحمة لو وضعت في غير موضعها تكون غير محمودة فالرحمة اذا لم توضع في موضعها لم تكن مدحا لصاحبها، محمود في رحمته يضعها حيث يجب ان توضع وهو محمود يوم الدين محمود في تملكه وفي مالكيته (مالك يوم الدين) محمود في ملكه ذلك اليوم (في قراءة ملك يوم الدين)
استغرق الحمد كل الازمنة لم يترك سبحانه زمنا لم يدخل فيه الحمد ابدا من الازل الى الابد فهو حمده قبل الخلق (الحمد لله) حين كان تعالى ولم يكن معه شيئ قبل حمد الحامدين وقبل وجود الخلق والكائنات استغرق الحمد هنا الزمن الاول وعند خلق العالم (رب العالمين) واستغرق الحمد وقت كانت الرحمة تنزل ولا تنقطع (الرحمن الرحيم) واستغرق الحمد يوم الجزاء كله ويوم الجزاء لا ينتهي لان الجزاء لا ينتهي فاهل النار خالدين فيها واهل الجنة خالدين فيها لا ينقضي جزاؤهم فاستغرق الحمد كل الازمنة من الازل الى الابد كقوله تعالى له الحمد في الاولى والاخرة هذه الآيات جمعت اعجب الوصف.
اياك نعبد واياك نستعين:
قدم المفعولين لنعبد ونستعين وهذا التقديم للاختصاص لانه سبحانه وتعالى وحده له العبادة لذا لم يقل نعبدك ونستعينك لانها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى اما قول اياك نعبد فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده وكذلك في الاستعانة (اياك نستعين) تكون بالله حصرا (ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير) (الممتحنة آية 4) كلها مخصوصة لله وحده حصرا فالتوكل والانابة والمرجع كله اليه سبحانه (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)(ابراهيم 12)
(قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) (الملك آية 29) تقديم الايمان على الجار والمجرور هنا لان الايمان ليس محصورا بالله وحده فقط بل علينا الايمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر لذا لم تأت به آمنا. أما في التوكل فجاءت وعليه توكلنا لا توكلنا عليه لان التوكل محصور بالله تعالى.
الآن لماذا كررت اياك مع فعل الاستعانة ولم يقل اياك نعبد ونستعين؟
التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به لو اقتصرنا على ضمير واحد (اياك نعبد ونستعين) لم يعني المستعان انما عني المعبود فقط ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفهم من ذلك انه لا يتقرب اليه الا بالجمع بين العبادة والاستعانة بمعنى انه لا يعبد بدون استعانة ولا يستعان به بدون عبادة. يفهم من الاستعانة مع العبادة مجموعة تربط الاستعانة بالعبادة وهذا غير وارد وانما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال ونستعين به على وجه الاستقلال وقد يجتمعان لذا وجب التكرار في الضمير اياك نعبد واياك نستعين. التكرار توكيد في اللغة، في التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.
اياك نعبد واياك نستعين: اطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد نستعين على شئ او نستعين على طاعة او غيره انما اطلقها لتشمل كل شئ وليست محددة بامر واحد من امور الدنيا. وتشمل كل شئ يريد الانسان ان يستعين بربه لان الاستعانة غير مقيدة بامر محدد. وقد عبر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع (نعبد ونستعين) وليس بالتعبير المفرد أعبد وأستعين وفي هذا اشارة الى أهمية الجماعة في الاسلام لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة وتلزم ان صلاة الجماعة افضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة وفيها دليل على اهمية الجماعة عامة في الاسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد،الاعياد والصيام. اضافة الى ان المؤمنين اخوة فلو قال اياك اعبد لأغفل عبادة اخوته المؤمنين وانما عندما نقول اياك نعبد نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين ايضاً.
لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟ اولاً ليدل على ان الانسان لا يستطيع ان يقوم بعبادة الله الا بإعانة الله له وتوفيقه فهو اذن شعار واعلان ان الانسان لا يستطيع ان يعمل شيئاً الا بعون الله وهو اقرار بعجز الانسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الامانة الثقيلة اذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، الاستعانة بالله علاج لغرور الانسان وكبريائه عن الاستعانة بالله واعتراف الانسان بضعفه.
لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟
العبادة هي علة خلق الانس والجن (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)(الذاريات 56) والاستعانة انما هي وسيلة للعبادة فالعبادة اولى بالتقديم.
العبادة هي حق الله والاستعانة هي مطلب من مطالبه وحق الله اولى من مطالبه.
تبدأ السورة بالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين وهذه كلها من اسلوب الغيبة اي كلها للغائب ثم انتقل الى الخطاب المباشر بقوله اياك نعبد واياك نستعين. فلو قسنا على سياق الآيات الاولى لكان اولى القول اياه نعبد واياه نستعين. فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟
في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو المتكلم او العكس الإلتفات. للالتفات فائدة عامة وفائدة في المقام، اما الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للاصغاء والانتباه. اما الفائدة التي يقتضيها المقام فهي اذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة مثال: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم) (يونس آية 22) لم يقل وجرين بكم فيها التفات لانهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك اصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين.
وعندما قال سبحانه الحمد لله رب العالمين فهو حاضر دائما فنودي بنداء الحاضر المخاطب. الكلام من اول الفاتحة الى مالك يوم الين كله ثناء على الله تعالى والثناء يكون في الحضور والغيبة والثناء في الغيبة اصدق واولى أما اياك نعبد واياك نستعين فهو دعاء والدعاء في الحضور اولى واجدى اذن الثناء في الغيبة اولى والدعاء في الحضور اولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي اولى.
إهدنا الصراط المستقيم
هذا دعاء ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم وهذا بدوره يدل على اهمية الطلب وهذا الدعاء لان له اثره في الدنيا والآخرة ويدل على ان الانسان لا يمكن ان يهتدي للصراط المستقيم بنفسه الا اذا هداه الله تعالى لذلك. اذا ترك الناس لانفسهم لذهب كل الى مذهبه ولم يهتدوا الى الصراط المستقيم وبما ان هذا الدعاء في الفاتحة ولا صلاة بدون فاتحة فلذا يجب الدعاء به في الصلاة الفريضة وهذا غير دعاء السنة في (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) (البقرة آية 201)
والهداية هي الالهام والدلالة. وفعل الهداية هدى يهدي في العربية قد يتعدى بنفسه دون حرف جر مثل اهدنا الصراط المستقيم (تعدى الفعل بنفسه) وقد يتعدى بإلى (وانك لتهدي الى صراط مستقيم) (الشورى آية 52) (واهديك الى ربك فتخشى) (النازعات آية 19) وقد يتعدى باللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (الاعراف 43) (بل الله يمن عليكم ان هداكم للايمان) (الحجرات آية 17)
ذكر اهل اللغة ان الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه ان التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه بمعنى ان المهدي كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية اليه. والتعدية بدون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه كقولنا هديته الطريق قد يكون هو في الطريق فنعرفه به وقد لا يكون في الطريق فنوصله اليه. (فاتبعني اهدك صراطا سويا) (مريم آية 43) ابو سيدنا ابراهيم لم يكن في الطريق، (ولهديناهم صراطا مستقيما) (النساء آية 68) والمنافقون ليسوا في الطريق. واستعملت لمن هم في الصراط (وقد هدانا سبلنا) (ابراهيم آية 12) قيلت في رسل الله تعالى وقال تعالى مخاطبا رسوله (ويهديك صراطا مستقيما) (الفتح آية 2) والرسول مالك للصراط. استعمل الفعل المعدى بنفسه في الحالتين.
التعدية باللام والى لمن لم يكن في الصراط (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط) (ص آية 22) (هل من شركائكم من يهدي الى الحق) (يونس آية 35)
وتستعمل هداه له بمعنى بينه له والهداية على مراحل وليست هداية واحدة فالبعيد عن الطريق، الضال، يحتاج من يوصله اليه ويدله عليه (نستعمل هداه اليه) والذي يصل الى الطريق يحتاج الى هاد يعرفه باحوال الطريق واماكن الامن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس ثم اذا سلك الطريق في الاخير يحتاج الى من يريه غايته واستعمل سبحانه اللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله) (الاعراف آية 43) وهذه خاتمة الهدايات.
ونلخص ما سبق على النحو التالي:
-انسان بعيد يحتاج من يوصله الى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى
-اذا وصل ويحتاج من يعرفه بالطريق واحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه
-اذا سلك الطريق ويحتاج الى من يبلغه مراده نستعمل الفعل المتعدي باللام
الهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل او الصراط ابدا في القرآن لان الصراط ليست غاية انما وسيلة توصل للغاية واللام انما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده او للقرآن لأنها خاتمة الهدايات كقوله (ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم) (الاسراء آية 9) وقوله (يهدي الله لنوره من يشاء) (النور آية 35)
قد نقول جاءت الهدايات كلها بمعنى واحد مع اختلاف الحروف.
§ (قل هل من شركائكم من يهدي الى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي الى الحق احق ان يتبع امن لا يهدي الا ان يهدى) (يونس آية 35)
جاءت يهدي للحق المقترنة بالله تعالى لان معنى الآيات تفيد هل من شركائكم من يوصل الى الحق قل الله يهدي للحق الله وحده يرشدك ويوصلك الى خاتمة الهدايات، يعني ان الشركاء لا يعرفون اين الحق ولا كيف يرشدون اليه ويدلون عليه.
§ (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم) (المائدة آية 16)
استعمل الهداية معداة بنفسها بدون حرف واستعملها في سياق واحد مع الفعل المعدى بالى ومعنى الآيات انه من اتبع رضوان الله وليس بعيدا ولا ضالا استعمل له الفعل المعدى بنفسه والذي في الظلمات هو بعيد عن الصراط ويحتاج الى من يوصله الى الصراط لذا قال يهديهم الى صراط مستقيم (استعمل الفعل المعدى بإلى)
نعود الى الآية اهدنا الصراط المستقيم (الفعل معدى بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدى بنفسه لجمع عدة معاني فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى ان يوصله اليه والذي في الطريق نطلب من الله تعالى ان يبصره باحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق.
وهنا يبرز تساؤل آخر ونقول كما سبق وقدم سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في (اياك نعبد واياك نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه ايانا اهدي؟ هذا المعنى لا يصح فالتقديم باياك نعبد واياك نستعين تقيد الاختصاص ولا يجوز ان نقول ايانا اهدي بمعنى خصنا بالهداية ولا تهدي احدا غيرنا فهذا لا يجوز لذلك لا يصح التقديم هنا. المعنى تطلب التقديم في المعونة والاستعانة ولم يتطلبه في الهداية لذا قال اهدنا الصراط المستقيم.
فلم قال اهدنا ولم يقل اهدني؟
لانه مناسب لسياق الآيات السابقة وكما في ايات الاستعانة والعبادة اقتضى الجمع في الهداية ايضا.
فيه اشاعة لروح الجماعة وقتل لروح الاثرة والانانية وفيه نزع الاثرة والاستئثار من النفس بان ندعو للآخرين بما ندعو به لانفسنا.
الاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة فاذا كثر السالكون يزيد الانس ويقوى الثبات فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل او يسقط او تأكله الذئاب. فكلما كثر السالكون كان ادعى للاطمئنان والاستئناس.
والاجتماع رحمة والفرقة عذاب يشير لله تعالى الى امر الاجتماع والانس بالاجتماع وطبيعة حب النفس للاجتماع كما ورد في قوله الكريم (ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها) (النساء آية 13) خالدين جاءت بصيغة الجمع لان المؤمنين في الجنة يستمتعون بالانس ببعضهم وقوله (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (النساء آية 14) في العذاب فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين النار والوحدة.
لذا فعندما قال سبحانه وتعالى اهدنا الصراط المستقيم فيه شئ من التثبيت والاستئناس هذا الدعاء ارتبط باول السورة وبوسطها وآخرها. الحمد لله رب العالمين مهمة الرب هي الهداية وكثيرا ما اقترنت الهداية باسم الرب فهو مرتبط برب العالمين وارتبط بقوله الرحمن الرحيم لان من هداه الله فقد رحمه وانت الان تطلب من الرحمن الرحيم الهداية اي تطلب من الرحمن الرحيم ان لا يتركك ضالا غير مهتد ثم قال اياك نعبد واياك نستعين فلا تتحقق العبادة الا بسلوك الطريق المستقيم وكذلك الاستعانة ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم اي صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم، ولا الضآلين، والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فالهداية والضلال نقيضان والضالين نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.
لماذا اختار كلمة الصراط بدلا من الطريق او السبيل؟ لو لاحظنا البناء اللغوي للصراط هو على وزن (فعال بكسر الفاء) وهو من الاوزان الدالة على الاشتمال كالحزام والشداد والسداد والخمار والغطاء والفراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى. الصراط يدل على انه واسع رحب يتسع لكل السالكين اما كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق اي مسلوك والسبيل على وزن فعيل ونقول اسبلت الطريق اذا كثر السالكين فيها لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال. فكلمة الصراط تدل على الاشتمال والوسع هذا في اصل البناء اللغوي (قال الزمخشري في كتابه الكشاف الصراط من صرط كانه يبتلع السبل كلما سلك فيه السالكون وكانه يبتلعهم من سعته).
الرحمن على وزن فعلان والرحيم على وزن فعيل ومن المقرر في علم التصريف في اللغة العربية ان الصفة فعلان تمثل الحدوث والتجدد والامتلاء والاتصاف بالوصف الى حده الاقصى فيقال غضبان بمعنى امتلأ غضبا (فرجع موسى الى قومه غضبان اسفا) لكن الغضب زال (فلما سكت عن موسى الغضب) ومثل ذلك عطشان، ريان، جوعان يكون عطشان فيشرب فيذهب العطش
اما صيغة فعيل فهي تدل على الثبوت سواء كان خلقة ويسمى تحول في الصفات مثل طويل، جميل، قبيح فلا يقال خطيب لمن ألقى خطبة واحدة وانما تقال لمن يمارس الخطابة وكذلك الفقيه.
هذا الاحساس اللغوي بصفات فعلان وفعيل لا يزال في لغتنا الدارجة الى الآن فنقول بدا عليه الطول (طولان) فيرد هو طويل (صفة ثابتة) فلان ضعفان (حدث فيه شيئ جديد لم يكن) فيرد هو ضعيف (هذه صفته الثابتة فهو اصلا ضعيف)
ولذا جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معا فلو قال الرحمن فقط لتوهم السامع ان هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره. ولو قال رحيم وحدها لفهم منها ان صفة رحيم مع انها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة انما قد تنفك مثلا عندما يقال فلان كريم فهذا لا يعني انه لا ينفك عن الكرم لحظة واحدة انما الصفة الغالبة عليه هي الكرم.
وجاء سبحانه بالصفتين مجتمعتين ليدل على ان صفاته الثابتة والمتجددة هي الرحمة ويدل على ان رحمته لا تنقطع وهذا ياتي من باب الاحتياط للمعنى وجاء بالصفتين الثابتة والمتجددة لا ينفك عن احداهما انما هذه الصفات مستمرة ثابتة لا تنفك البتة غير منقطعة.
فلماذا اذن قدم سبحانه الرحمن على الرحيم؟ قدم صيغة الرحمن والتي هي الصفة المتجددة وفيها الامتلاء بالرحمة لابعد حدودها لان الانسان في طبيعته عجول وكثيرا ما يؤثر الانسان الشيئ الآتي السريع وان قل على الشيئ الذي سيأتي لاحقا وان كثر (بل تحبون العاجلة) لذا جاء سبحانه بالصفة المتجددة ورحمته قريبة ومتجددة وحادثة اليه ولا تنفك لان رحمته ثابتة. ووقوع كلمة الرحيم بعد كلمة الرب يدلنا على أن الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا وفيها اشارة الى ان المربي يجب ان يتحلى بالرحمة وتكون من ابرز صفاته وليست القسوة والرب بكل معانيه ينبغي ان يتصف بالرحمة سواء كان مربيا او سيدا او قيما وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.
مالك يوم الدين:
هناك قراءة متواترة (ملك يوم الدين) بعض المفسرين يحاولون تحديد اي القراءتين اولى وتحديد صفة كل منهما لكن في الحقيقة ليس هناك قراءة اولى من قراءة فكلتا القراءتين متواترة نزل بهما الروح الامين ليجمع بين معنى المالك والملك.
المالك من التملك والملك بكسر الميم (بمعنى الذي يملك الملك)
وملك بكسر اللام من الملك بضم الميم والحكم (اليس لي ملك مصر) الملك هنا بمعنى الحكم والحاكم الاعلى هو الله تعالى.
المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون والملك قد يكون مالكا وقد لا يكون. المالك يتصرف في ملكه كما لا يتصرف الملك (بكسر اللام) والمالك عليه ان يتولى امر مملوكه من الكسوة والطعام والملك ينظر للحكم والعدل والانصاف. المالك اوسع لشموله العقلاء وغيرهم والملك هو المتصرف الاكبر وله الامر والادارة العامة في المصلحة العامة فنزلت القراءتين لتجمع بين معنى المالك والملك وتدل على انه سبحانه هو المالك وهو الملك (قل اللهم مالك الملك) الملك ملكه سبحانه وتعالى فجمع بين معنى الملكية والملك
مالك يوم الدين، لم لم يذكر الدنيا؟ سواء كان مالكا او ملكا فلماذا لم يقل مالك يوم الدين والدنيا؟
اولا قال الحمد لله رب العالمين فهو مالكهم وملكهم في الدنيا وهذا شمل الدنيا. مالك يوم الدين هو مالك يوم الجزاء يعني ملك ما قبله من ايام العمل والعمل يكون في الدنيا فقد جمع في التعبير يوم الدين والدنيا وبقوله يوم الدين شمل فيه الدنيا ايضا.
لم قال يوم الدين ولم يقل يوم القيامة؟ الدين بمعنى الجزاء وهو يشمل جميع انواع القيامة من اولها الى آخرها ويشمل الجزاء والحساب والطاعة والقهر وكلها من معاني الدين وكلمة الدين انسب للفظ رب العالمين وانسب للمكلفين (الدين يكون لهؤلاء المكلفين) فهو انسب من يوم القيامة لان القيامة فيها اشياء لا تتعلق بالجزاء اما الدين فمعناه الجزاء وكل معانيه تتعلق بالمكلفين لان الكلام من اوله لآخره عن المكلفين لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.
لماذا قال مالك يوم واليوم لا يملك انما ما فيه يملك والسبب لقصد العموم ومالك اليوم هو ملك لكل ما فيه وكل من فيه فهو اوسع وهو ملكية كل ما يجري وما يحدث في اليوم وكل ما فيه ومن فيه فهي اضافة عامة شاملة جمع فيها ما في ذلك اليوم ومن فيه واحداثه وكل ما فيه من باب الملكية (بكسر الميم) والملكية (بضم الميم)
اقتران الحمد بهذه الصفات احسن واجمل اقتران. الحمد لله فالله محمود بذاته وصفاته على العموم والله هو الاسم العلم) ثم محمود بكل معاني الربوبية (رب العالمين) لان من الارباب من لا تحمد عبوديته وهو محمود في كونه رحمن رحيم، محمود في رحمته لان الرحمة لو وضعت في غير موضعها تكون غير محمودة فالرحمة اذا لم توضع في موضعها لم تكن مدحا لصاحبها، محمود في رحمته يضعها حيث يجب ان توضع وهو محمود يوم الدين محمود في تملكه وفي مالكيته (مالك يوم الدين) محمود في ملكه ذلك اليوم (في قراءة ملك يوم الدين)
استغرق الحمد كل الازمنة لم يترك سبحانه زمنا لم يدخل فيه الحمد ابدا من الازل الى الابد فهو حمده قبل الخلق (الحمد لله) حين كان تعالى ولم يكن معه شيئ قبل حمد الحامدين وقبل وجود الخلق والكائنات استغرق الحمد هنا الزمن الاول وعند خلق العالم (رب العالمين) واستغرق الحمد وقت كانت الرحمة تنزل ولا تنقطع (الرحمن الرحيم) واستغرق الحمد يوم الجزاء كله ويوم الجزاء لا ينتهي لان الجزاء لا ينتهي فاهل النار خالدين فيها واهل الجنة خالدين فيها لا ينقضي جزاؤهم فاستغرق الحمد كل الازمنة من الازل الى الابد كقوله تعالى له الحمد في الاولى والاخرة هذه الآيات جمعت اعجب الوصف.
اياك نعبد واياك نستعين:
قدم المفعولين لنعبد ونستعين وهذا التقديم للاختصاص لانه سبحانه وتعالى وحده له العبادة لذا لم يقل نعبدك ونستعينك لانها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى اما قول اياك نعبد فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده وكذلك في الاستعانة (اياك نستعين) تكون بالله حصرا (ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير) (الممتحنة آية 4) كلها مخصوصة لله وحده حصرا فالتوكل والانابة والمرجع كله اليه سبحانه (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)(ابراهيم 12)
(قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) (الملك آية 29) تقديم الايمان على الجار والمجرور هنا لان الايمان ليس محصورا بالله وحده فقط بل علينا الايمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر لذا لم تأت به آمنا. أما في التوكل فجاءت وعليه توكلنا لا توكلنا عليه لان التوكل محصور بالله تعالى.
الآن لماذا كررت اياك مع فعل الاستعانة ولم يقل اياك نعبد ونستعين؟
التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به لو اقتصرنا على ضمير واحد (اياك نعبد ونستعين) لم يعني المستعان انما عني المعبود فقط ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفهم من ذلك انه لا يتقرب اليه الا بالجمع بين العبادة والاستعانة بمعنى انه لا يعبد بدون استعانة ولا يستعان به بدون عبادة. يفهم من الاستعانة مع العبادة مجموعة تربط الاستعانة بالعبادة وهذا غير وارد وانما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال ونستعين به على وجه الاستقلال وقد يجتمعان لذا وجب التكرار في الضمير اياك نعبد واياك نستعين. التكرار توكيد في اللغة، في التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.
اياك نعبد واياك نستعين: اطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد نستعين على شئ او نستعين على طاعة او غيره انما اطلقها لتشمل كل شئ وليست محددة بامر واحد من امور الدنيا. وتشمل كل شئ يريد الانسان ان يستعين بربه لان الاستعانة غير مقيدة بامر محدد. وقد عبر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع (نعبد ونستعين) وليس بالتعبير المفرد أعبد وأستعين وفي هذا اشارة الى أهمية الجماعة في الاسلام لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة وتلزم ان صلاة الجماعة افضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة وفيها دليل على اهمية الجماعة عامة في الاسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد،الاعياد والصيام. اضافة الى ان المؤمنين اخوة فلو قال اياك اعبد لأغفل عبادة اخوته المؤمنين وانما عندما نقول اياك نعبد نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين ايضاً.
لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟ اولاً ليدل على ان الانسان لا يستطيع ان يقوم بعبادة الله الا بإعانة الله له وتوفيقه فهو اذن شعار واعلان ان الانسان لا يستطيع ان يعمل شيئاً الا بعون الله وهو اقرار بعجز الانسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الامانة الثقيلة اذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، الاستعانة بالله علاج لغرور الانسان وكبريائه عن الاستعانة بالله واعتراف الانسان بضعفه.
لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟
العبادة هي علة خلق الانس والجن (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)(الذاريات 56) والاستعانة انما هي وسيلة للعبادة فالعبادة اولى بالتقديم.
العبادة هي حق الله والاستعانة هي مطلب من مطالبه وحق الله اولى من مطالبه.
تبدأ السورة بالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين وهذه كلها من اسلوب الغيبة اي كلها للغائب ثم انتقل الى الخطاب المباشر بقوله اياك نعبد واياك نستعين. فلو قسنا على سياق الآيات الاولى لكان اولى القول اياه نعبد واياه نستعين. فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟
في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو المتكلم او العكس الإلتفات. للالتفات فائدة عامة وفائدة في المقام، اما الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للاصغاء والانتباه. اما الفائدة التي يقتضيها المقام فهي اذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة مثال: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم) (يونس آية 22) لم يقل وجرين بكم فيها التفات لانهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك اصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين.
وعندما قال سبحانه الحمد لله رب العالمين فهو حاضر دائما فنودي بنداء الحاضر المخاطب. الكلام من اول الفاتحة الى مالك يوم الين كله ثناء على الله تعالى والثناء يكون في الحضور والغيبة والثناء في الغيبة اصدق واولى أما اياك نعبد واياك نستعين فهو دعاء والدعاء في الحضور اولى واجدى اذن الثناء في الغيبة اولى والدعاء في الحضور اولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي اولى.
إهدنا الصراط المستقيم
هذا دعاء ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم وهذا بدوره يدل على اهمية الطلب وهذا الدعاء لان له اثره في الدنيا والآخرة ويدل على ان الانسان لا يمكن ان يهتدي للصراط المستقيم بنفسه الا اذا هداه الله تعالى لذلك. اذا ترك الناس لانفسهم لذهب كل الى مذهبه ولم يهتدوا الى الصراط المستقيم وبما ان هذا الدعاء في الفاتحة ولا صلاة بدون فاتحة فلذا يجب الدعاء به في الصلاة الفريضة وهذا غير دعاء السنة في (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) (البقرة آية 201)
والهداية هي الالهام والدلالة. وفعل الهداية هدى يهدي في العربية قد يتعدى بنفسه دون حرف جر مثل اهدنا الصراط المستقيم (تعدى الفعل بنفسه) وقد يتعدى بإلى (وانك لتهدي الى صراط مستقيم) (الشورى آية 52) (واهديك الى ربك فتخشى) (النازعات آية 19) وقد يتعدى باللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (الاعراف 43) (بل الله يمن عليكم ان هداكم للايمان) (الحجرات آية 17)
ذكر اهل اللغة ان الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه ان التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه بمعنى ان المهدي كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية اليه. والتعدية بدون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه كقولنا هديته الطريق قد يكون هو في الطريق فنعرفه به وقد لا يكون في الطريق فنوصله اليه. (فاتبعني اهدك صراطا سويا) (مريم آية 43) ابو سيدنا ابراهيم لم يكن في الطريق، (ولهديناهم صراطا مستقيما) (النساء آية 68) والمنافقون ليسوا في الطريق. واستعملت لمن هم في الصراط (وقد هدانا سبلنا) (ابراهيم آية 12) قيلت في رسل الله تعالى وقال تعالى مخاطبا رسوله (ويهديك صراطا مستقيما) (الفتح آية 2) والرسول مالك للصراط. استعمل الفعل المعدى بنفسه في الحالتين.
التعدية باللام والى لمن لم يكن في الصراط (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط) (ص آية 22) (هل من شركائكم من يهدي الى الحق) (يونس آية 35)
وتستعمل هداه له بمعنى بينه له والهداية على مراحل وليست هداية واحدة فالبعيد عن الطريق، الضال، يحتاج من يوصله اليه ويدله عليه (نستعمل هداه اليه) والذي يصل الى الطريق يحتاج الى هاد يعرفه باحوال الطريق واماكن الامن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس ثم اذا سلك الطريق في الاخير يحتاج الى من يريه غايته واستعمل سبحانه اللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله) (الاعراف آية 43) وهذه خاتمة الهدايات.
ونلخص ما سبق على النحو التالي:
-انسان بعيد يحتاج من يوصله الى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى
-اذا وصل ويحتاج من يعرفه بالطريق واحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه
-اذا سلك الطريق ويحتاج الى من يبلغه مراده نستعمل الفعل المتعدي باللام
الهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل او الصراط ابدا في القرآن لان الصراط ليست غاية انما وسيلة توصل للغاية واللام انما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده او للقرآن لأنها خاتمة الهدايات كقوله (ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم) (الاسراء آية 9) وقوله (يهدي الله لنوره من يشاء) (النور آية 35)
قد نقول جاءت الهدايات كلها بمعنى واحد مع اختلاف الحروف.
§ (قل هل من شركائكم من يهدي الى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي الى الحق احق ان يتبع امن لا يهدي الا ان يهدى) (يونس آية 35)
جاءت يهدي للحق المقترنة بالله تعالى لان معنى الآيات تفيد هل من شركائكم من يوصل الى الحق قل الله يهدي للحق الله وحده يرشدك ويوصلك الى خاتمة الهدايات، يعني ان الشركاء لا يعرفون اين الحق ولا كيف يرشدون اليه ويدلون عليه.
§ (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم) (المائدة آية 16)
استعمل الهداية معداة بنفسها بدون حرف واستعملها في سياق واحد مع الفعل المعدى بالى ومعنى الآيات انه من اتبع رضوان الله وليس بعيدا ولا ضالا استعمل له الفعل المعدى بنفسه والذي في الظلمات هو بعيد عن الصراط ويحتاج الى من يوصله الى الصراط لذا قال يهديهم الى صراط مستقيم (استعمل الفعل المعدى بإلى)
نعود الى الآية اهدنا الصراط المستقيم (الفعل معدى بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدى بنفسه لجمع عدة معاني فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى ان يوصله اليه والذي في الطريق نطلب من الله تعالى ان يبصره باحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق.
وهنا يبرز تساؤل آخر ونقول كما سبق وقدم سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في (اياك نعبد واياك نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه ايانا اهدي؟ هذا المعنى لا يصح فالتقديم باياك نعبد واياك نستعين تقيد الاختصاص ولا يجوز ان نقول ايانا اهدي بمعنى خصنا بالهداية ولا تهدي احدا غيرنا فهذا لا يجوز لذلك لا يصح التقديم هنا. المعنى تطلب التقديم في المعونة والاستعانة ولم يتطلبه في الهداية لذا قال اهدنا الصراط المستقيم.
فلم قال اهدنا ولم يقل اهدني؟
لانه مناسب لسياق الآيات السابقة وكما في ايات الاستعانة والعبادة اقتضى الجمع في الهداية ايضا.
فيه اشاعة لروح الجماعة وقتل لروح الاثرة والانانية وفيه نزع الاثرة والاستئثار من النفس بان ندعو للآخرين بما ندعو به لانفسنا.
الاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة فاذا كثر السالكون يزيد الانس ويقوى الثبات فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل او يسقط او تأكله الذئاب. فكلما كثر السالكون كان ادعى للاطمئنان والاستئناس.
والاجتماع رحمة والفرقة عذاب يشير لله تعالى الى امر الاجتماع والانس بالاجتماع وطبيعة حب النفس للاجتماع كما ورد في قوله الكريم (ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها) (النساء آية 13) خالدين جاءت بصيغة الجمع لان المؤمنين في الجنة يستمتعون بالانس ببعضهم وقوله (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (النساء آية 14) في العذاب فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين النار والوحدة.
لذا فعندما قال سبحانه وتعالى اهدنا الصراط المستقيم فيه شئ من التثبيت والاستئناس هذا الدعاء ارتبط باول السورة وبوسطها وآخرها. الحمد لله رب العالمين مهمة الرب هي الهداية وكثيرا ما اقترنت الهداية باسم الرب فهو مرتبط برب العالمين وارتبط بقوله الرحمن الرحيم لان من هداه الله فقد رحمه وانت الان تطلب من الرحمن الرحيم الهداية اي تطلب من الرحمن الرحيم ان لا يتركك ضالا غير مهتد ثم قال اياك نعبد واياك نستعين فلا تتحقق العبادة الا بسلوك الطريق المستقيم وكذلك الاستعانة ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم اي صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم، ولا الضآلين، والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فالهداية والضلال نقيضان والضالين نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.
لماذا اختار كلمة الصراط بدلا من الطريق او السبيل؟ لو لاحظنا البناء اللغوي للصراط هو على وزن (فعال بكسر الفاء) وهو من الاوزان الدالة على الاشتمال كالحزام والشداد والسداد والخمار والغطاء والفراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى. الصراط يدل على انه واسع رحب يتسع لكل السالكين اما كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق اي مسلوك والسبيل على وزن فعيل ونقول اسبلت الطريق اذا كثر السالكين فيها لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال. فكلمة الصراط تدل على الاشتمال والوسع هذا في اصل البناء اللغوي (قال الزمخشري في كتابه الكشاف الصراط من صرط كانه يبتلع السبل كلما سلك فيه السالكون وكانه يبتلعهم من سعته).